بقلم: د. منذر جابر - بيروت 1979
مشكورة خطوة المجلس الثقافي للبنان الجنوبي، فهي تتعدى تقليب صفحات من تاريخ جبل عامل الى ما هو أبعد من ذلك: أعني فتح ملف هذا التاريخ وهو تاريخ مضيّع منسي مرات عدة:
- مضيع أولاً على يد المؤرخين اللبنانيين، فجبل عامل عندهم خالة لهذا الوطن وليس أما، فلا يذكر في كل مراحل التعليم في لبنان، مدرسة وجامعة، الا مرة واحدة عندما أقطع أمير جبل لبنان آل علي الصغير بلاد بشارة بعد معركة عين داره.
والمؤرخون اللبنانيون يؤكدون دائماً على خصوصية المؤسسات الاجتماعية والسياسية اللبنانية، خصوصية كانت وعلى طول الحقب التاريخية "لبنانية صافية، ولكي تحافظ هذه المؤسسات على قدسيتها ولبنانيتها وطهارتها كان لا بد من تغييب التاريخ الخاص بكل منطقة، وبالتالي بكل طائفة، فتخبو والحالة هذه جميع نيران الصراع الكامن والمتفجر حيناً، ويصبح جميع اللبنانيين أخواناً في عائلة "معتمة".
- وتاريخ جبل عامل مضيع ثانياً على يد المؤرخين العامليين انفسهم فالأدبيات العاملية التاريخية، مجموعات موميائية لذكر الوقائع التي تقوم على المصادفة وعلى تراكم الأحداث، والتي تتفق مع هدف معين، وسردها يخلو من عمل التحليل والتعليل والاستنتاج، بالاضافة الى أن كل الكتابات العاملية التاريخية تنطلق أساساً من مجموعة أساطير، هي الآن ثوابت ومسلمات تاريخية تعلو عن النقاش: أسطورة الأصل الواحد (بنو عاملة)، أسطورة التشيع على الصحابي أبي ذر الغفاري، الأساطير التي ترويها العائلات العاملية عن ماضيها أو تختلقها لماضيها.
- وتاريخ جبل عامل مضيع ثالثاً على يد العامليين أنفسهم، فحال هذا التاريخ مع أصحابه الحقيقيين ليس بأحسن منها مع المؤرخين: "لقد أحسست بسحر لا يتحدد وأنا استمع الى متواليين عجوزين ذوي لحى بيضاء، يتحدثان عن مجد المتاولة السابق وعن قوة أجدادهم في سوريا، ثم بعيون دامعة راحا يتحدثان عن ذلهم الحالي وعن مآسيهم في عهد الجزار المخيف" (1). هذا ما يرويه رحالة زار منطقة جبل عامل في ثلاثينات القرن الماضي، وهو ما يزال ينطبق حتى الآن، فالتاريخ في جبل عامل ما زال ختيارا له لحية بيضاء يروي أخباراً متناقلة عن الماضي، ومجموعة من الذكريات غير البعيدة في الزمن والمحفوظة في صدور أقلية من الناس تردد ما يخطر لها منه في حلقات ومجالس ضيقة، فالتاريخ في جبل عامل ما زال تسلية مثقفين، دينيين على الأغلب، لا شاغلاً جماعياً أو تراثاً شعبياً لجماعة تجد فيه صوراً لنفسها ماضياً وحاضراً ومستقبلاً.
لقد خضع جبل عامل منذ عام 1920 لتبدل قسري خض حياته وهزها، فقد وجد نفسه آخر الآمر جزءاً من دولة، مؤسسة، لم تكن له فيها شركة من قبل، اعتبر فيها "قاروطاً" ضائعاً يعتاش على ما تجود به يمين "الخالة" وأولادها الشرعيون. كما أن اقتصاده مع ظروف ما بعد 1920 أفلس أو كاد: الزراعة توشك أن تكون عملاً مجانياً لا يسد الرمق، والحرف ضاقت دائرتها فهجره حرفيون ولجأوا الى مصانع المدينة، والتجارة أمسك بخناقها بعد أن سدت في وجهها أبواب فلسطين وسوريا. باختصار أخذ جبل عامل، جنوب لبنان، يبدو وكأنه بلا حياة، فليس من الحياة الاجتماعية الا بعض سهرات يقيمها صبغاً بعض سكانه الهاربين من حر المدينة. أما في الشتاء فليس الا النسوة والعجائز، والباقي من أهله فمقيم في العاصمة متنقلاً في سكناه مرات عدة بين أحياء بائسة موحلة، يؤدي على الأغلب أكثر الأعمال شقاء وأقلها أجراً، دون أن يعرف استقراراً في عمله أو ثباتاً، وليس له من المراكز الثقافية الا ما تحفظه الذاكرة عن مدارس قديمة كانت في ميس وعيناتا والكوثرية وبنت جبيل، وحتى لو تواجدت فيه بعض مراكز للثقافة فانها تفتقد الحوار أو حتى اللغة المشتركة، "فالمثقف الديني والمثقف الماركسي لا يعترفان ببعضهما البعض والواحد منهما يجد حديث الآخر من غير لغته، وشواغله من غير شواغله، وأسئلته وأجوبته وقضاياه هي غير ما يطرح من أسئلة وأجوبة وقضايا".
في هذا السياق، سياق هجرة العامليين عن جبل عامل، المثقفون بفكرهم والآخرون بوجودهم وعملهم، فمن الطبيعي ان يضيعوا تاريخهم وثقافتهم، وهكذا يبدو جبل عامل وكأنه بلا تاريخ أو أنه لا يحتاج تاريخاً، فالتاريخ، التراث، لا يمكن أن يرافق العامليين على طريق هجرتهم وتنقلهم بين عمل وعمل، بين القرية والمدينة.
وإذا كان التاريخ بالدرجة الأولى، "هم" المثقفين، فإن لهؤلاء أيضاً شاغلهم، الشاغل والأهم هي الوظيفة، بها يدخلون مرحلة "التاريخ" فهي مدفن بؤسهم وبؤس آبائهم، وهؤلاء لا يعون ان لجبل عامل تاريخاً الا في اللحظة التي يكفون بها عن انتاج تاريخهم الخاص، أي في اللحظة التي تسد في وجوههم أبواب الرزق وأبواب الترقي، بحيث يباتون لا يملكون شيئاً الا ما تمليه عليهم حاجات المدينة وغايات رأسماليتها.
بعد هذه المقدمة في ضياع التاريخ العاملي، إسمحوا لي أن أستبق حديثي عن الكيان السياسي لجبل عامل قبل 1920 وأثره في الوعي والفكر الشيعيين، بملاحظتين منهجيتين:
1 - أن كلمة كيان هنا لا تعني انفصالاً أو حاجزاً اجتماعياً تاريخياً وجغرافياً بين جبل عامل وجواره، كما توهم بعض الرحالة الاجانب حين قال ان نهر الليطاني سمي عند مصبه بالقاسمية لأنه يقسم. بفصل بين أمتين متمايزتين ديناً وعرقاً. وانما كلمة كيان هنا يتحدد معناها بحدود التمايز والخصوصيات الجزئية الاجتماعية والسياسية ضمن التاريخ العام الموحد والجامع لكل سكان المشرق العربي.
2 - أن البحث هنا لا يحيط بالظروف الاجتماعية والسياسية والاقتصادية لنشوء الكيان السياسي لجبل عامل، لأن البحث في هذه النقاط بتعمق سيوقع في تكرار لما سبق وتفضل به المحاضرون السابقون. فالتركيز في الحديث سيكون أساساً على كيفية انعكاس هذا الكيان في وعي وفكر الشيعة.
***
فخر الدين الثاني. التلميذ الأمين لمكيافيللي، حسب تعبير لوتسكي. هو "قابلة" التواريخ الخاصة "لبلاد" المنطقة. بطرحه مشروعاً استقلالياً هو الأول من نوعه في فترة كانت الامبراطورية العثمانية تدخل أزمتها التي استولت عليها وكانت نذيراً بالتدهور الذي أخذ من القرن الثامن عشر يظهر بشكل واضح جلي. وقبل الأمير المعني يصعب تلمس موقع واضح القسمات والملامح لجبل عامل في تاريخ المنطقة اجمالاً، على الرغم من جهد بعض المؤرخين الشيعة في رصد تاريخ خاص للجبل منذ تواجد قبيلة عاملة الأول مروراً بكل العهود التي عرفتها المنطقة حتى الآن، وهو تاريخ يبدو على يد أصحابه اسلامياً حيناً، عربياً حيناً آخر، مضطهراً في كل الأحيان.
في ميزان الأمير فخر الدين وحساباته كان لجبل عامل وزن خاص: اهراء حبوب في متناول يده لا يقاسمه اغترافه أمير محلي آخر (كابن سيفا وسهل عكا) ولا يرى فيه باشا دمشق مجالاً حيوياً لباشويته كما يرى في سهل البقاع. وقلاع جبل عامل الكثيرة (الشقيف. تبنين، دبين، شمع، دير كيفا، هونين) أحوج ما يكون لها الأمير على أبواب صيدا للحجاج الأوروبيين الذين تعهد الأمير لبعض ملوك الغرب بحمايتهم في طريقهم الى بيت المقدس. أضف الى ذلك أن الشيعة يمنيون، والأمير فخر الدين رأس القيسيه. وصراع القيسية واليمينة في مداه آنذاك. ويمنية شيعة جبل عامل تأخذ بعداً أكبر في سياسة الأمير. اذ أن علاقات متينة تربطهم مع شيعة بعلبك آل حرفوش. وهؤلاء على طيب علاقة مع باشوات دمشق الأتراك ووقوفهم الى جانب مصطفى باشا ضد الأمير فخر الدين في معركة عنجر بين واضح، كل هذه الحوافز، خاصة مع وجود مشروع استقلالي كبير كالذي عند الأمير، لم تكن لتسمح أبداً بتدوير زوايا الصراع وتجاوزه بين جبل لبنان وجبل عامل، فمنذ البدء كان خصماً عدائياً لا يحتمل المساومة. (2)
غياب الأمير فخر الدين لم يعن زوال مبررات الصدام بين الجبلين، فالأمير، وإن كان قد فشل في تحقيق مشروعه الاستقلالي. فانه قد نجح الى حد بعيد في جعل ميزان التفاوت الكائن في درجات التبعية للامبراطورية العثمانية يميل لصالح امارته جبل لبنان. فالبرغم من أن كل سوريا كانت ولاية عثمانية، فان سلطة الباب العالي كانت إسمية على جبل لبنان، مقارنة لها بغيرها مع باقي مناطق سوريا. وخاصة مقارنة لها مع منطقة مقطوعة الرأس كجبل عامل.
العلاقة مع الشهابيين خلفاء المعنيين، لم تجمد هذا الطابع الصدامي او تنحو به منحى آخر. فقد بدأت متفجرة مع السنة الأولى التي تولوا فيها الحكم (1698) مع الأمير بشير الراشاني (3) وتتابعت على نفس النسق مواكبة تغير الأمراء في الجبل. أو تغير الباشوات العثمانيين في دمشق أو صيدا، وقد دفع الشيعة فواتير تلك المعارك خسائر في الأرواح والأرزاق "بجدارة شيعية عالية". حتى كان عام ،1744 حيث تمكنوا من تسجيل انتصارهم الأول على أمراء جبل لبنان بشخص الأمير ملحم الشهابي (4) وأتبعوه بانتصار آخر عام 1749 في معركة جباع ومرجعيون (5)، ولا يخفف من نتوء هذه الظاهرة وأهميتها في مجرى العلاقة بين جبل لبنان وجبل عامل انتقام الأمير ملحم واحراقه بعض القرى ووصوله حتى بلاد بشارة (6).
لقد أحدث هذان الانتصاران تغييراً في "الوجه التاريخي" لمنطقة جبل عامل الذي كان نهر هزائم وآلام ينبع من كربلاء ويصب في موقعة أنصار الثانية عام 1743 وكانت اكتمالاً لنشوء كيانه السياسي تحت قيادة شيخ المشايخ ناصيف النصار الوائلي عام ،1749 وهي تجد مقوماتها في اهتزاز المنطقة السياسي آنذاك: فقد عرف النزاع اليزبكي ــ الجنبلاطي بداية اهتياجه في جبل لبنان مع قرب نهاية الأمير ملحم الشهابي بدون عقب، والأمير بدوره على خلاف مع باشا دمشق لتخلفه عن دفع ميري الجبل. ظاهر العمر الزيداني على حدود جبل عامل الجنوبية على خلاف مع ابنائه من جهة ومع باشا دمشق من جهة أخرى. رقعة التعامل السياسي تضيق وتصغر والتوازن فيها دقيق وغير محسوم، وهنا تبدو لجبل عامل أهمية خاصة ووزن أكبر، فهو أكثر المناطق استقراراً بعد توحده الآنف الذكر تحت قيادة ناصيف النصار وضمور الخطر الخارجي على حدوده.
ولكن العامل الحاسم في تغير الوجه التاريخي وولادة الكيان السياسي لجبل عامل، كان وجود ظاهر العمر على الطرف الجنوبي، فقد وجد فيه العامليون الحلقة المفقودة - على الأرض طبعاً - خلال كل تاريخهم الطويل في المنطقة، وهو بدوره رأى فيهم خط دفاع عن مقاطعته صفد التي كانت هدفاً لأغلب غزوات الأمراء الشهابيين ابتداء من ،1698 ولكن أثر هذه الحملات كان يصل بلاد صفد بارداً، بحيث لم تتأثر بها بنفس المقدار الذي كان يتأثر به جبل عامل. وهكذا كانت منطقة جبل عامل وبلاد بشارة على الأخص بوابة لمقاطعة صفد ولفلسطين بالتالي، بالنسبة للأمراء الشهابيين وولاة الدولة العثمانية، وبالمقابل فبالنسبة لظاهر العمر كانت إما سياجاً وإما على الأقل رمالاً متحركة تصونه أمام أخصامه. لا بد إذن من تحالف بين الطرفين، فالخصم مشترك، لذلك رأينا ظاهر العمر بعد أن استطاع الأمير ملحم الوصول الى بلاد بشارة للمرة الأخيرة سنة 1749 "خائفاً وأخذ يجدد أسوار عكا" (7). وفي ظروف الضعف التي كان يعاني منها الطرفان كان التحالف في بدايته ضمنياً خفراً. ومع الوقت أخذ التحالف يبدو للعلن بمساعدات عسكرية فعلية يقدمها ظاهر خاصة في المعركتين اللتين ربح فيهما الشيعة ضد الأمير ملحم. ثم تطور سنة 1767 م (1181 هـ) الى معاهدة قد تكون الأولى من نوعها بين حكام المنطقة، فقد كانت كما جددها ميخائيل نقولا الصباغ "محالفة دفاعية هجومية" (8).
التحالف مع ظاهر العمر أنزل الشيعة ولأول مرة كطرف في لعبة المنطقة، من موقع التحدي للدولة العثمانية، بوقوفهم مع علي بك الكبير حاكم مصر ومحاولته الابتعاد عن السلطنة، وقد خاض الشيعة في عامي 1770 - 1771 منفردين أو بمساهمة متكافئة مع ظاهر معارك خمس كبيرة: نابلس، دمشق، الحولة، كفر رمان حارة صيدا، ضد الأمير يوسف منفرداً أو متحالفاً مع عثمان باشا والي دمشق أو ابنه درويش باشا والي صيدا، وقد انتصروا فيها جميعاً واحتلوا صيدا مع ظاهر ودخلوا دمشق مع أبي الذهب قائد حملة علي بك الكبير الى سوريا (9).
ان هذه الانتصارات البكر التي فاز بها الشيعة ضد أمير الجبل يوسف الشهابي وولاة الدولة العثمانية، كانت أكبر من ان يتحملوا، بكيانهم الناشئ المدين بولادته الى سند خارجي، نتائجها، فمع زوال هذا السند (ظاهر العمر) على يد الجزار، وقفوا ضائعين بلا حول ولم تنفع وفودهم وهداياهم في رد طغيان الجزار عليهم، وقد وقع عام 1780.
ودخول الجزار الى جبل عامل كان أبعد أثراً مما تقف عنده الأدبيات العاملية: دخان المكتبات المحروقة ورائحة الجثث، وذلك لأن فترة ما بعد الجزار مع الأمير بشير الشهابي الكبير، عرفت تحولاً جذريا في علاقة جبل لبنان بجبل عامل. ففي الوقت الذي كان فيه امراء الجبل اللبناني ابتداء من فخر الدين الثاني (10) يدخلون جبل عامل غزاة جباة، دخله الأمير بشير حاكماً شرعياً باجماع مشايخه الذين اجابوه صاغرين بعد أن حدثهم عن دوره الكبير لدى سليمان باشا خليفة الجزار في ارجاعهم الى بلادهم "انهم يأمرون بكل ما يريده ويرسمه" (11). صحيح ان مشايخ جبل عامل انذاك كانوا محشورين في بضعة قرى من اقليم الشومر، بموجب صك الصلح الموقع بين سليمان باشا و"الطياح" في جبل عامل الذين استطاعوا بعد حركة مسلحة طويلة التخلص من سيطرة المشايخ (12)، ولكن هؤلاء "الطياح" وهم الغالبية الفلاحية في جبل عامل عادوا وانضووا تحت سيطرة المشايخ للتمكن من الوقوف في وجه السياسة الابتزازية للأمير بشير الشهابي. ولأول مرة يدخل الشيعة في النظام العائلي الاجتماعي لجبل لبنان وعلى رأسه الأمير بشير الشهابي "رأس سائر العشاير، على كل حال المشايخ المذكورين 1 مشايخ جبل عامل) من العشاير التي هو رأسها" (12). لقد أخضع هذا الانضواء الطوعي منطقة جبل عامل للتأثيرات التي خلفتها سياسة الأمير بشير والتي كان لجبل عامل فيها اعتبارات خاصة، ليس أقلها مردودها المالي، وحاجة الأمير لها في أحداث واقعة أو مستجدة سواء منها داخل الامارة أي في صراع الأمير مع عائلات جبل لبنان أم في علاقاته مع الدولة العثمانية وباشواتها.
عام 1864 وبموجب التنظيمات الجديدة لمنطقة سوريا الحق جبل عامل بولاية بيروت، وهذا يعني أنه أصبح جزءاً عضوياً من ولاية شاملة متسعة على عكس وضعه السابق، وهذا ما جعل العلاقة بينه وبين لبنان تتخلى عن صداميتها العسكرية بعد "الحجر السياسي" الذي فرض على الأخير بموجب نظام المتصرفية. ولكن هذه العلاقة اتخذت مساراً جديداً لا يقل استنزافاً وصدامية: لقد أصبح جبل عامل وفلاحوه رهائن للمرابين القادمين من صوب بيروت وجبل لبنان (ال جوهر، آل غندور، آل الصلح، آل فرنسيس، آل الشمعة، آل مجدلاني، آل عودة)، وقد توكأت هذه البرجوازية في مد سيطرتها على جبل عامل على ازدهار زراعة التبغ فيه في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. وقد كان ازدهار الزراعة على حساب المزروعات الغذائية التي تقلصت وافسحت امامها أخصب الأراضي. ولكن هذه الزراعة عادت وضربت بعد احتكارها من قبل شركة الريجي الفرنسية في أول الربع الأخير من القرن التاسع عشر التي فرضت شروطاً على هذه الزراعة، لقد "أخذت الريجي بمصير زراعة التبغ في مناطق معينة وذلك ليتسنى لها حصر الانتاج في أماكن ضيقة تسهل مراقبتها لمكافحة الانتاج اللاقانوني وتهريبه، وكان كل فلاح يود زراعة التبغ مطالباً بالحصول على إذن من الشركة، ولم يكن كل فلاح قادراً على نوال هذا الإذن، فلكي يحصل الفلاح عليه كان لا بد له، وحسب نظامها من التصرف بأرض لا تقل عن خمس الهكتار وأن تكون محاطة بسياج، والا تكون المساحة الفاصلة عن المدينة بأقل من 3 كلم، وان تكون صالحة لزراعة التبغ" (14).
ان هذه الشروط مجتمعة في منطقة كجبل عامل تضيق فيه الملكية الصغيرة التي كثيراً ما تقل عن الحد المطلوب قانونياً أدت الى تدهور الزراعة فلكي يستطيع الفلاح أن يزرع تبغاً كان عليه استئجار أرض اضافية وبأسعار عالية، وأن يستدين ليبني سياجاً، وأن "يرضي" أصحاب العلاقة ليقرروا ان كانت أرضه صالحة لزراعة التبغ، وهذا التدهور أدى الى تجميع الملكيات الصغيرة أو انتقال الملكيات الكبيرة، نتيجة عمليات الربا والرهن الى أيدي قلة متمولة من خارج جبل عامل (البرجوازية البيروتية واللبنانية. آل العظم يملكون مطاحن وادي الحجير). لان الفئآت المتمكنة في جبل عامل (آل الأسعد، آل الفضل) لم تكن قادرة على تخطي اصولها الاجتماعية والدخول في شبكة العلاقات الرأسمالية. هذا بالاضافة الى الابتزاز الذي كان يفرضه منطق التبعية الاقتصادية، فقد كان أهالي جبل عامل ينهبون كمستهلكين، في نفس الوقت الذي كانوا ينهبون فيه كمنتجين عن طريق شراء محاصيلهم بالأسعار التافهة. ان هذه السيطرة الاقتصادية هي علاقة صدامية بحد ذاتها، فالتاجر "الأجنبي" يبقى أجنبياً دوماً، على الرغم من تبلده وسكنه في جبل عامل (آل عودة، آل فرنسيس، آل جوهر، آل مجدلاني..) وقد ترافقت هذه السيطرة بأخرى سياسية فقد أصبحت هذه البرجوازية المرجع الأول في القضايا الحاسمة في جبل عامل: ففي الخلاف الذي نشب في أواخر ستينات القرن التاسع عشر داخل أسرة آل السعد "جاء أحمد باشا الصلح. وأصلح بين الزعيمين، فأعيد تامر بك لمقاطعته وبقيت الرياسة لعلي بك" (15).
عام 1920. عام التحول السياسي في حياة المشرق العربي السياسية، كان كذلك عام الحسم بالنسبة لعلاقة جبل عامل بجواره وخاصة بجبل لبنان، وهو عام تصفية الكيان الذاتي الذي كان قد كسبه جبل عامل ابتداء من سنة ،1749 وذلك بقيام دولة لبنان الكبير، وبهذا الضم الجديد تتكون مجموعة من التناقضات على الأصعدة المختلفة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية، ليس أقلها الشرخ السياسي اللبناني بين دعاة الوحدة السورية، واستطراداً العربية الرافضين لبنان كيان مستقلاً، وبين دعاة لبنان المستقل، وهذان الاتجاهان السياسيان ما زالا تقريباً يلخصان الحياة السياسية في لبنان.
لقد وقف العامليون بصلابة مع الحركة العربية عام 1916 - 1920 وساهموا بفعالية في طرد الاتراك، وتابعوا عصاباتهم المسلح ضد وجود الحلفاء وضد مشاريعهم السياسية لتقسيم سوريا، بقيادة صادق الحمزة وأدهم خنجر، وكان مطلبهم الواضح الالتحاق بالمملكة السورية. وليس المجال هنا للحديث بالتفصيل عن هذه الحركة المسلحة "العصابات" التي تمكنت من اقفال جبل عامل بوجه الفرنسيين. ولكن الشيء الملفت للنظر ان هذا الموقف الوطني الواعي لجماهير العامليين ينقلب في اللحظة الأخير ويتمحور الى هجوم على بعض القرى المسيحية (عين ابل)، بالرغم من أن العصابات العاملة في جبل عامل وخاصة كبرياتها (عصابات صادق الحمزة وأدهم خنجر) كانت أبعد ما تكون في طروحاتها عن العمل الطائفي. ففي مؤتمر وادي الحجير الذي انعقد في 24 نيسان. 1920 "جلس صادق أمام العلماء والقرآن بين ايديهم فأخذوا عليه وعلى رجاله الايمان المغلظة ان لا يتعرض لاحد من المواطنين ابناء جبل عامل مسلمين كانوا أم مسيحيين. فأقسم بذلك واستثنى من كان مؤلباً للفرنسيين على الوطن واستقلاله، مجاهراً بذلك للغاصبين المحتلين مسلماً كان أو مسيحياً أو من أي مذهب كان لان جهادنا سياسي لا ديني (16).
ومع الأخذ بعين الاعتبار، مواقف السلطات الفرنسية وخلقها عصابات موالية لها في القرى المسيحية (القليعة، عين ابل)، ومواقف بعض القيادات السياسية في جبل عامل والمؤيدة للفرنسيين ومشروع لبنان الكبير، فان هناك سؤالاً يطرح نفسه: كيف يتحول العمل الوطني في فترة ما الى عمل طائفي؟ وما هي خلفيات ذلك على أرضية الواقع في جبل عامل؟
ان القوى المسيحية في جبل عامل، بتعاملها مع القضايا السياسية، وخاصة الكبرى منها. لم تكن أبداً منسلخة عن ميزان وتوجهات القيادة المسيحية في جبل لبنان، بل ان هذه الأخيرة شكلت على الدوام بعداً ملازماً للصراع بشكليه الكامن أو المتفجر في جبل عامل، وكانت تفرض على "الأطراف" خطها السياسي الذي اكتملت ملامحه وبرزت في أحداث 1860 والذي توسعت قاعدته أفقياً لتشمل مناطق جديدة تحتوي عناصر مسيحية لم تدخل في أحداث 1960 أو مناطق تشمل طوائف لم تدخل الأحداث بسياقها المعروف (17). وقد تطور هذا البعد بفعل الأحداث لان يصبح فعلاً بعداً داخلياً في جبل عامل. يفعل مباشرة في العلاقة بين الشيعة والمسيحيين أثناء أحداث ،1920 والذي زاد من التصاق المسيحيين بقيادتهم العليا في جبل لبنان. إن بلدة عين ابل نفسها تعرضت عام 1860 لهجوم من قبل بلدة بنت جبيل ولمحاولة حرق، وما همّ في المقياس السياسي ان "قام بها جهال في تلك الفترة" (18)، وهذا طبعاً عزز لديهم الخوف من الداخل الشيعي الاسلامي، وهكذا فان العهود في لبنان، ما هم أكان لبنان كبيراً أم صغيراً كانت تعني الاتصال بالعمق الطائفي في جبل لبنان، الذي يحمل بذاته الرد على العمق الشيعي المحيط، وهذا يتطلب برأيهم حماية أجنبية! فكيف اذا كانت فرنسا هي الحامية! وفي هذا السياق بالضبط يأتي جواب أهل عين ابل عندما طلب منهم صادق الحمزة القاء السلاح ورفع العلم الشريفي: "انهم يهنئون الأمير بسمو مقامه ولا يمكنهم وضع سلاحهم ولا رفع العلم الا بأمر حاكمهم الفرنساوي في صور" (19).
وفي الطرف المقابل، كان الدخول في لبنان الكبير يعني بالنسبة للشيعة انسلاخاً عن واقع عربي اسلامي، يتأكد أكثر فأكثر ان لواء القيادة فيه معقود للهاشميين، الشريف حسين وأبنائه، فقد دفع شيعة جبل عامل أكثر للنضال في سبيل هذا الواقع، الأحداث الدموية المتفجرة في العراق ،1920 والتي انطلقت ضد البريطانيين مؤيدة للهاشميين من مدينة النجف بالذات. لبنان الكبير يعني جعل طائفة الشيعة بلا حول أو قوة أمام طوائف أخرى هي أكثر عدداً، وأكثر امكانيات سياسية واجتماعية واقتصادية، وأكثر استناداً الى ظهير خارجي. لبنان الكبير يعني أن سياسة أمراء الجبل وابتزازتهم المالية ما زالت حية، السيطرة على جنوب جبل عامل التي طالما بهرت عيونهم، وموقف الشيعة انذاك من الشروع السياسي المطروح (لبنان الكبير) تمثله خير تمثيل كلمة الشيخ عبد الحسين صادق: "جبل (جبل لبنان) يبتلع جبلاً (جبل عامل)".
ان هذه المقابلة بين الطرفين المسيحي والشيعي في جبل عامل كان يزيد من حدتها، التصاق الطرفين بدائرة جغرافية واجتماعية محددة، فهي لم تكن مقابلة بين طرفين منفصلين يمكن للواحد ان يستقل عن الآخر، وبالتالي يخرج من دائرة المواجهة، اضافة الى ان قوة الأحداث وتسارعها في تلك الفترة كانت تمنع الوصول الى حل وسط، كما كان يحدث في بداية أحداث منتصف القرن التاسع عشر في جبل لبنان: نظام القائمقاميتين، ترتيبات شكيب أفندي، فبينما كانت الهتافات في عين ابل "بيبا (فيفا) فرنسا بيبا، يحيا دين الصليبا" "فرنسا يا شعب مليح يا معزز دين المسيح"، كانت الهتافات في بلدة بنت جبيل المجاورة "تقوا موتوا يا عدوان البنديرة شريفية". ونظرة بسيطة الى هذين الهتافين ترينا التحدي المطروح من كلا الطرفين، وترينا التناقض الصارخ وعدم امكانية الالتقاء في منتصف الطريق: فالتحية لفرنسا ودين الصليب لا تستمد اساسها من "ذات" فرنسا ومن "ذات" دين الصليب، فالهتاف هنا سياسي وليس مونولجيا جماعياً يردده الأهالي ببراءة وطهارة. وهذه الهتافات تستمد أسسها فعلاً من وجود طرف شيعي، له نظرته المغايرة من فرنسا ومن دين الصليب كمتعاون معها. وبالمقابل الهتاف الشيعي "تقوا موتوا يا عدوان البنديرة شريفية". "فالعدوان" هنا ليسوا "المغضوب عليهم" ولا "الضالين" ولا يزيد بن معاوية ولا القوات التركية الراحلة الى غير رجعة، ببساطة انهم أهل الجوار من مسيحيي المنطقة الذين يعارضون البنديرة الشريفية. وادراك المقصود من الهتاف عند كل طرف من قبل الطرف الآخر مسألة بسيطة لا تحتاج الى حس سياسي واع مسبق، الحس السياسي العفوي كفيل بفهم كل الابعاد السياسية لهذه الهتافات.
بعد هذا البحث في العوامل التي كانت تؤثر في الوعي السياسي عند شيعة ومسيحيي منطقة جبل عامل في مواقفهم من أحداث 1920 والمشاريع السياسية المطروحة آنذاك. وهي عوامل تمد بجذورها في مسلسل التحولات التي كانت تطرأ على منطقة جبل عامل باتصالاتها وتفاعلاتها مع جبل لبنان، بعد هذا نستطيع أن نفهم كيف قيض للشكل الطائفي أن يصبغ بصبغته عملاً وطنياً كبيراً للعامليين عام 1920. وهذا الشكل الطائفي بدوره شكل مدخلاً للقوات الفرنسية للاحتلال جبل عامل بعد أن أصبح لديها دليل تثبت من خلاله حقها في حماية الأقلية المسيحية، وفعلاً جردت فرنسا حملة، على جبل عامل بقيادة الكولونيل "نيجر" مارست ضروب القتل والنهب والتدمير (20) والارهاب السياسي والفكري، هذا الارهاب الذي استمر حتى ثلاثينات القرن الحالي والذي دفع بشاعر عاملي، عبد الحسين عبد الله، ان يحسد كلاباً على مزبلة:
يهنيكم يا كلاب الحي أنكم لا تشعرون ببشكوف ولا جان.
والغريب ان الدولة اللبنانية كافأت الكولونيل "نيجر" وأطلقت اسمه على أحد شوارع العاصمة.
***
والآن كيف انعكست هذه العلاقة الصدامية على الوعي والفكر الشيعيين؟
- ان هذه الصدامية المتواترة مع جبل لبنان منذ القرن السابع عشر حين بدأت بداية أزمة الدولة العثمانية، وحين اجبرت السلطنة على الاعتراف باستقلال ذاتي وجوهري للملل والطوائف الدينية (21). كانت تحمل في أحشائها بذور وعي سياسي طائفي جديد لدى شيعة المنطقة. وجد أولياته مع فخر الدين الثاني، فالاضطهاد الأيوبي أو المملوكي لم يحمل بذوراً مثل هذه، لأنه في عرف شيعة جبل عامل ووعيهم بقي معلقاً في فراغ الصدام الأكبر منذ كربلاء دون أن يلامس الأرضية الاجتماعية والسياسية للواقع المعيوش. مع المعنيين والشهابيين خرج التشيع من مدارس التعليم الديني والتي كانت كثيرة في العهدين المملوكي والأيوبي، وكذلك خرج التشيع من التقية "الملجأ" الشيعي الأمين في الأزمات، ليطل وجوداً سياسياً مللياً طائفياً، فالشيعة في جبل عامل اكتشفوا انفسهم كشيعة محددين في الزمان والمكان من خلال تعاملهم مع مسيحيين ودروز وسنة. وعي هذا الوجود الطائفي المحلي انعكس في التسمية الجديدة "المتاولة" والموقوفة عليهم وحدهم من بين "رافضة الاسلام" والتي ترجعها المصادر أما الى أوائل القرن الحادي عشر للهجرة وأما الى أواخره (22)، وفي كلتا الحالتين يبقى مولد التسمية بين 1600 ــ 1700 أي أنها وردت مع بدء التفاعل الدرزي السني المسيحي المباشر مع شيعة جبل عامل. والخلاف على مصدر اشتقاق الكلمة لا يعدل في دلالاتها، فسواء أكانت مشتقة ــ كما تذهب الأدبيات العاملية ــ على غير قياس من تولى أي اتخذ ولياً أو على "قياس" من توالى على حبه لآل البيت، أو من "مت وليا لعلي" نداء ينخون به بعضهم في المعارك، فان كلمة متوالي بتفسيراتها تبرز الشعار الموحد والجامع "الامام علي وآل البيت"، وهذا بديهة ليس بجديد، وجه الجدة يمكن في مرادفة التسمية الجديدة لسلوك سياسي جديد في مرحلة تاريخية معينة، وملاحظة الشيخ علي الزين حول التسمية في تمام محلها "على اننا لم نجد هذا اللقب قد انتشر الا بين الذين غامروا في لهوات الحروب في ذلك العصر، وانغمسوا في تلك الفتن مثل بلاد بشارة وبلاد بعلبك وكسروان، أما الذين لم يندمجوا في هذا السلك الأحمر كسكان دمشق منهم وأرباض حلب، فلم يكن لهم من اطلاق لفظ المتاولة عليهم نصيب" (23).
وهكذا ففي الوقت الذي كانت فيه "حياة" الشيعة "فترة سجن" يذوبون فيها حنيناً لآل البيت مصهورين بحبهم لهم "من ذرف دمعة على الحسين فقد أطفأ جمرة من نار جهنم"، يعيشونها كتلة هلامية تمثل الحق المطلق وليس وجوداً سياسياً فاعلاً. ولماذا الفعل؟! ما دام الحق قد غلب نهائياً بمقتل الحسين ولن يعود الى نصابه الا مع ظهور المهدي الذي سيملأ الأرض عدلاً بعد أن ملئت جورا، ولا سلطة اطلاقاً خارج هذا الظهور، وما دامت الامامة تكليف من الله، فان رفض السلطة لم يعد يعني فقط رفض المغتصبين الأوائل (الأمويين والعباسيين) بل رفض أي سلطة خارج ظهور المهدي، فدولة الفاطميين والبويهيين والايرانيين كلها سلطات زمنية في عقيدة الشيعة لا تمت الى الدين بصلة. ففي الوقت الذي كانت فيه "حياة" الشيعة كذلك، أصبحت مع المعنيين والشهابيين وخاصة في فترة ناصيف النصار لها أبعاد "متوالية" عاملية، يتعامل الشيعة بكل أدواتها الدنيوية والسياسية: السيف والخيل، الخصم المحدد والصديق الحليف، الأرض المحرمة على العدو، العز والجاه والوجاهة، ولنا من قصائد الفلسطيني "شناعة المريمي" الناطق زجلاً باسم المتاولة في كل أشعاره، عن صراعهم مع أمير جبل لبنان يوسف تمثيل لهذه الأفكار الطارئة:
لا بني متوال ظهر العاديات من ظهور الخيل يمضون الصقال
ما يفوت المير ديرتنا حرام لو نبت من فوق طربوشو النخل
وفي وصفة لجيش الأمير يوسف:
دروز وغز وتلايم معاهم كراد رجال ما يدروا الوجاهة
على لسان ناصيف النصار:
ما زالي ناقلاً للرمح بيدي بني متوال في عز وجاها
وقد وعى الشيعة أنفسهم كمتاولة الى الآخر، بمعنى أن وعي الذات في واقع طائفي متأزم يفترض الحط من قيمة الآخرين من طوائف أخرى، والنيل منهم والاستهزاء بهم، على لسان نفس الشاعر في وصف جيش الأمير يوسف الشهابي في موقعة كفر رمان التي انتصر بها المتاولة:
شي دروز وشي يهود وشي قرود وشي نصارى وشي كراد وشي ملل
يحسبون الحرب هو بيعة حرير وايش جاب الحرب لغزل الشلل
ومع تغير شكل العلاقة بين المنطقتين في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وزوال الصدامية مع اقرار نظام المتصرفية الخاص بجبل لبنان، لم يتغير مضمون هذا الوعي، وانما ارتد الى مستواه الديني. ومرة ثانية يحضر الزجل الشعبي شاهداً على هذ التحول، ففي مناظرة شهيرة بين الزجلي المتوالي "محمود حداثا" وآخر مسيحي "داوود" في أواخر القرن التاسع عشر، يحال "محمود حداثا" اثبات تفوق المتاولة "نوعياً" على المسيحيين ابتداء من الايمان بوحدانية الإله:
متوالي ومش متخبي الله أخبر في وفيك
مش متلك جاحد ربي وعامل لو حرمة وشريك
ابتداء من هذا وانتهاء بكل التفاصيل والفروقات الصغيرة بين الحياة الدينية الاجتماعية للطائفتين. ولا ينسى الشاعر المتوالي في المناسبة استحضار الدروز والتذكير بتفوق المتاولة عليهم، حتى ولو كانوا خارج دائرة المناظرة آنذاك، اذ يقول على لسانهم:
بني متوال ما فيناش ليهم نعم شدوا العزيمة على النصارى
وطبعاً ليس من قبيل الصدفة أن تكون الأمثلة مسحوبة من الزجل الشيعي، وقد تكون مقتصرة عليه، فهو مؤشر التوجيهات السياسية والاجتماعية الشعبية، كونه أكثر شيوعاً وأكثر التصاقاً بتفاصيل الحياة اليومية.
***
ان وعي الشيعة لتميزهم تفاعل مع مستجدات القرن 17 وما بعده، فتميزهم قبلا كان في تذكر ائمتهم، وفي التذكير عبرة ومعرفة ذات، فسيرة الأئمة معلم تاريخي يتعدى في خصوصيته وفعله الاجتماعي، بالنسبة للشيعة، السيرة النبوية، كفعل سياسي عام، فالأئمة هم "مصابيح الهدى وقناديل الدجى والنجم الساري في الليل"، وقد اعتبر الشيعة في جبل عامل من سيرة ائمتهم (ليس منا آل البيت من لم يمت مقتولاً أو مسموماً)، وقدموا في عصر المماليك الشهيد الأول، وقبل فخر الدين قدموا الشهيد الثاني. الأول، كما تصفه الادبيات العاملية "كان فقيهاً عملاقاً في المقدرة والشهرة... اعتقل من قبل السلطان المملوكي، دام اعتقاله أحد عشر شهراً، ثم قتل وصلب وأحرقت جثته في 1384" (24) والثاني بموجب الأدبيات العاملية كذلك، "عالم قتل بعد أن أتهمه السلطان كمبتدع خارج على المذاهب الأربعة... وقيل أنه بقي مطروحاً ثلاثة أيام في العراء" (25).
ان مفهوم الشهادة في الحالتين، مفهوم شيعي صرف، بمعنى أن الشهادة هنا تدخل في نطاق الصراع الثنائي بين الخير والشر بين الشيعة و"الآخرين"، الصراع الذي ينتج نفسه دون فجاءات، فالنظرة الشيعية تسقط التاريخ من حسابها والأحداث تتساوى ما دامت جميعها حلقات سوداء في خط الانسانية الذي غدا أسود منذ بويع أبو بكر وغصب حق علي.
منذ بداية القرن ،17 ومع تغير طبيعة المواجهة الشيعية مع المعنيين والشهابيين ظهر "الشهيد السياسي"، فالشهادة تحولت من شيعية لها أبعادها الكونية الى شهادة متوالية عاملية حيزها محدد زماناً ومكاناً. فاذا كان الشهيدان الأول والثاني قتلا في فترة عرفت تعصباً ضد الشيعة مع المماليك (حملة كسروان وفتاوى ابن تيمية) وبعد ان اتهما كمبتدعين خارجين على المذاهب الأربعة - كما تخبرنا الأدبيات العاملية - وفي أمكنة خارج جبل عامل: الشهيد الأول في دمشق (عاصمة الأمويين) والشهيد الثاني في الطريق الى الاستانة (مركز السلطة الطاغية) مما يسنن ويصقل شفرة المواجهة، بتكرار شكل النموذج التاريخي الشيعي (الم يستشهد الحسين بعد خروجه الى كربلاء؟)، فان الشهيد السياسي له في شهادته وجه آخر، زعماء جبل عامل: مشرف بن علي الصغير، علي بن علي الصغير، منصور بن علي الصغير، ناصيف النصار، عباس المحمد، علي الفارس الصعبي، قاسم المراد، علي المنصور المنكري وآخرون غيرهم قتلوا في أماكن من جبل عامل ولاسباب محددة: هي حسب رأي مؤرخي تلك الفترة ورواتها: ثأر من أمير جبل لبنان لشماتة الشيعة بوفاة والده، "مخرقة" المتاولة على حدود امارة الجبل، خلاف على ملكية قرية، تهرب من دفع ميري، انتقام الشيعة من الدروز بعد الاعتداء على مكاري منهم. الشماتة، المخرقة، الانتقام، ملكية لقرية، كرامة الطائفة واستقلالها السياسي والاقتصادي، كل هذه أسباب خصام ومجابهة بين شيعة جبل عامل والجوار، ولا مجال هنا أبداً لمقارنة هذه "الفتن الصغرى" "بالفتن الكبرى"، مفاصل التاريخ الشيعي ومنبع الشهادة فيه: اغتصاب الخلافة من علي وبلاء كربلاء.
ان ظهور الشهيد السياسي كان يواكب انتظام المتاولة في وحدة سياسية لها وعليها، تخاصم وتعقد تحالفات، والمرحلة التي نحن بصدد الحديث عنها تحفل باشارات بالغة الأهمية على هذا الصعيد، فبعد أن كان تعاضد الشيعة فيما بينهم "دب صوت"، ينقل لأول مرة عن انه أثناء مهاجمة فخر الدين الثاني لبعض القرى في جبل عامل كان "وجهاؤها غائبين في جمعية لبني متوال" (26)، وهذا حدث بحد ذاته في تاريخ جبل عامل السياسي. الحدث الثاني كان مواجهة الشيعة مجتمعين، وان لم يكن تحت قيادة موحدة، الأمير أحمد المعني عام 1077هـ - 1666م في واقعة النبطية (27)، ومع تراصف الشيعة في جبل عامل تحت قيادة سياسية واحدة مع ناصيف النصار تحفل لمراجع التاريخية بإشارات كثيرة عن تحالفات بين جبل عامل وجواره كالمحالفة الدفاعية الهجومية مع ظاهر العمر أو بالجمعيات الكثيرة التي كانت تعقد دورياً بين بعض الأمراء الشهابيين والشيخ علي جنبلاط من جهة وبين الشيخ ناصيف النصار من جهة ثانية في صور أو حاصبيا أو دير القمر أو عكا (28).
قد يتبادر هنا الى أن المتولة في جانبها السياسي الجديد لشيعة جبل عامل في تعارض مع التشيع كمبدأ ديني صرف، وهي في تحديدها واقتصارها على شيعة جبل عامل في تعارض مع كونية هذا المبدأ (ليس بلد أحب بك من بلد خير البلاد ما حملك. الإمام علي) ولكن هذا التعارض يغور إذا ما أدركنا أن هذا الواقع السياسي الجديد لم يكن بمعزل عن المحرك الطائفي الديني، فالتفاعلات التي حصلت مع رؤية كل خلفياتها السياسية والاجتماعية لم تكن بنظر "المتوالي" سوى أن الآخرين من مذهب آخر يريدون منه كطائفة وكمذهب أولاً وقبل كل شيء، فالسياسة والاجتماع، ليست "قضايا" شيعية واستطراداً ليست قضايا متوالية، وإذا كان لا بد من الحرب فلتكن ضد أعداء التشيّع كمذهب والشيعة كطائفة، وهذا طبعاً قمة الصفاء الديني وقمة الإخلاص لله والأئمة، إذ يكفي أن يضحي الانسان "شيعياً" حتى يكون قد اختصر مسافات زمنية من الإيمان ومصيره بالطبع الجنة، والمتولة لا تخرج أبداً عن هذا الإطار، فهي ممارسة سياسية للتشيّع "المتربّص"، الحذر، الذي صفع وأدمى مراراً آخرها مع المماليك والأيوبيين، فجبل عامل بنظر أهاليه يوشك أن يكون "أرض التشيّع المختارة" والدفاع عنه سلطة وحدوداً وخيرات، دفاع عن التشيّع مذهباً كونياً، كيف لا، وجبل عامل بعرف مؤرخيه أول المناطق تشيّعاً، ولم يسبق الى ذلك إلا قلة من رجالات المدينة المنوّرة (29)، وهو ثانياً، بعرف مؤرخيه. كذلك، تشيّع على يد صحابي جليل: أبو ذر الغفاري، أحد أربعة مقرّبين الى قلب الرسول، يدخلون الجنة بغير استئذان، واسمه يذكر غالباً مقروناً بالحديث الشريف "ما أظلت الغبراء ولا أقلت الخضراء أصدق لهجة من أبي ذر"، وشيعة جبل عامل ليسوا كغيرهم - وان تشيّع - أهل فتنة ونفاق، ولم يملأوا قلب علي قيحاً، كما يدين الإمام شيعة العراق، وهم أخيراً لم يستشعروا مرة ندماً، كما غيرهم ممن تخلى عن الحسين في كربلاء، وهم الآن يرددون بصوفية تقترب من الغيبوبة، في جالس التعزية التي تعقد يومياً "يا ليتنا كنا معكم فنفوز فوزاً عظيماً". يا ليتنا كنا مع الحسين، لا ليهزم يزيداً، بل لينتصروا هم على الدنيا، بشهادة شيعية، يفوزون بعدها بالجنة.
بعض مراجع البحث
1- PERRIER Ferdinand, La Syrie sous le gouvernement de Mehemet Ali, Paris, 1842, p234.
2 - للحصول على تفاصيل عن المعارك راجع: علي الزين، للبحث عن تاريخنا في لبنان، بيروت، 1973 ص 254 - 265.
3 - راجع حيدر أحمد شهاب، لبنان في عهد الأمراء الشهابيين، بيروت، ،1933 ص ،8 منير الخوري، صيدا عبر حقب التاريخ، بيروت، ،1964 ص 259.
4 - حيدر شهاب، المرجع السابق ص ،34 سليمان ظاهر، العرفان، مجلد ،28 ص 346.
5 - للحصول على تفاصيل وافية راجع حيدر شهاب، المرجع السابق، ص ،41 سليمان ظاهر، العرفان، مجلد ،28 ص ،348 طنوس الشدياق، أخبار الأعيان في جبل لبنان، مجلد 2 ص ،29 علي الزين، المرجع السابق، ص 440 - 443.
6 - راجع حيدر أحمد شهاب، مرجع سابق ص 43.
7 - راجع حيدر أحمد شهاب، مرجع سابق ص 43.
8 - ميخائيل نقولا الصباغ، تاريخ ظاهر العمر، حريصا، من دون تاريخ طبع، ص 39.
9 - للحصول على تفاصيل واسعة عن هذه المعارك راجع: مخائيل بريك، تاريخ الشام، حريصا، ،1930 ص 94 - ،96 وحيدر أحمد شهاب، مرجع سابق، ص 85 وVolney: Voyage en egypte et la Syrie pendantles années 1783, 1784 et 1785 T. 2, p17. وادوار لاكروا، تاريخ أحمد باشا الجزار، تعريب جورج مسرة، ساو باولو، ،1924 ص ،29 ميخائيل نقولا الصباغ، مرجع سابق ص 99 - ،102 حيدر رضا الركيني، جبل عامل في قرن، العرفان، مجلد ،28 ص 54 - 55. علي الزين، مرجع سابق، ص 510 - ،511 عيسى اسكندر المعلوف، دواني القطوف في تاريخ بني المعلوف، بعبدا، 1907 - ،1908 ص ،207 طنوس الشدياق مرجع مذكور، ص 43.
10 - من المؤرخين من يجعل حكم المعنيين لجبل عامل مباشرة بعد معركة مرج دابق 1516: راجع قرألي بولس، تاريخ فخر الدين المعني ص 92 - 93. أما الدكتور كمال الصليبي في بحثه "حول نسب فخر الدين" المنشور في جريدة النهار عددي 31 تموز و14 آب 1966 فيجعل السيطرة مع الأمير فخر الدين المعني.
11 - راجع ابراهيم العورة، تاريخ ولاية سليمان باشا العادل، صيدا، لبنان، 1930 ص 44.
12 - راجع ابراهيم العورة، تاريخ ولاية سليمان باشا العادل، صيدا، لبنان، 1930 ص 142 - 143.
13 - ميخائيل مشاقة مرجع مذكور، ص 38.
14 - بدر الدين السباعي، أضواء على الرأسمال الأجنبي في سوريا، دمشق، ،1967 ص 43.
15 - محمد جابر آل صفا، تاريخ جبل عامل، دار متن اللغة، ص 59.
16 - أحمد رضا، العرفان، مجلد ،33 جزء ،9 ص 989.
17 - راجع وضاح شرارة، في أصول لبنان الطائفي اليميني الجماهيري اللبناني، بيروت ص 111 - 113.
18 - الشيخ محمد مهدي مغنية، جواهر الحكم، مخطوطة غير منشورة.
19 - كليمنتين خياط، المشرق، مجلد ،18 ص 781.
20 - للحصول على تفاصيل وافية عن أعمال الحملة، راجع العرفان، مجلد ،33 جزء ،6 ص 609 -610 عن لسان متطوع ساهم في أعمال الحملة.
21 - راجع: ز. ي. هرشلاغ، مدخل الى التاريخ الاقتصادي للشرق الأوسط، بيروت، ،1972 ص 15.
22 - راجع علي الزين، مرجع سابق، ص 481.
23 - علي الزين، مع التاريخ العاملي، صيدا، ،1954 ص 41.
24 - علي مروه، تاريخ جبع، بيروت، دار الأندلس، ،1967 ص 36.
25 - المرجع السابق، ص 47.
26 - علي الزين، للبحث عن تاريخنا... نقلاً عن الصفدي، تاريخ فخر الدين، ص 16.
27 - علي السبيتي، جبل عامل في قرنين، العرفان، المجلد ،5 ص 21.
28 - راجع حيدر رضا الركيني، جبل عامل في قرن، العرفان، مجلد ،28 ص 158 - 256 - 454.
29 - محسن الأمين، خطط جبل عامل، الجزء الأول، بيروت، ،1961 ص 65.