بقلم العقيد الدكتور ياسين سويد - بيروت 1979
عندما طلب إليّ المجلس الثقافي للبنان الجنوبي أن أتحدث عن "جبل عامل في عهد الإمارتين المعنية والشهابية" ضمن سلسلة من المحاضرات بعنوان "صفحات من تاريخ جبل عامل" كان عليّ أن أواجه أحد خيارين:
الأول: أن أعتمد المنهج التقليدي في كتابة التاريخ وهو القائم على الاهتمام بتدوين الوقائع والأحداث بعد التحري عنها وتحقيقها، دون الاهتمام بفلسفة هذه الأحداث أو تقييمها سياسياً أو عقيدياً، أو حتى اجتماعياً.
الثاني: ان أعتمد المنهج الحديث الذي يتبعه الكثير من المؤرخين المعاصرين وهو القائم على إبراز الأحداث الهامة المؤثرة في المسار التاريخي العام، مع الأخذ بالمسببات والنتائج، وذلك في سياق تحليل أو تقييم أو تسييس أو فلسفة هذه الأحداث، وهذا المنهج هو في نظري منهج التاريخ الهادف.
وبالإضافة الى أن الفترة التي طلب إليّ التحدث عنها هي من السعة بحيث تمتد الى نحو ثلاثة قرون ونصف القرن من الزمن (1516 - 1842) فلا يتسع الوقت القصير نسبياً لمحاضرة ما، الى الإلمام بأحداثها البارزة، مع تحليل أو تقييم أو فلسفة هذه الأحداث، وبما أنني، أساساً، من أنصار المنهج التقليدي للتاريخ باعتبار أن المنهج الحديث، في نظري، هو أقرب الى فلسفة التاريخ منه الى التاريخ بمعناه الصحيح، بل ربما مال عن التاريخ الصحيح الى تاريخ تحدد أهداف كتابته سلفاً، فتفسد موضوعيته، وبما أن الانضباط المهني غالباً ما يورث "الانضباط الفكري"، فقد عقدت العزم على أن أتبع في محاضرتي هذا المنهج التقليدي، فأتحدث عن صفحات من تاريخ "جبل عامل في عهد الإمارتين" تاركاً لغيري تحليل الأحداث وتسييسها وتقييمها وفلسفتها، ولعل في نية المجلس الثقافي للبنان الجنوبي، الذي كانت له المبادرة الكريمة في وضع سلسلة المحاضرات هذه، أن يتبعها بسلسلة أخرى تلبي مطامح الراغبين في بحث التاريخ حسب المنهج الحديث.
مقدمة
عندما نتحدث عن جبل عامل، إنما نعني، من الناحية الجغرافية، تلك البقعة من بلاد الشام التي راوحت حدودها التاريخية ما بين نهر الأولي وجزين ومشغرة شمالاً، ومرجعيون وبانياس والحولة شرقاً، والزيب ووادي القرن وسعسع (الفلسطينية) ووادي فاره جنوباً، والتي تشكل، حالياً، محافظة لبنان الجنوبي، بعد أن اقتطع الانتدابان الفرنسي والإنكليزي منها، بموجب معاهدة سايكس بيكو عام ،1916 عدداً من القرى نذكر منها، على سبيل المثال، لا الحصر، قرى الخالصة وهونين وقدس والنبي يوشع والمالكية وصلحة وتربيخا والمنارة والمطلة وغيرها. وأما من الناحيتين التاريخية والبشرية، فهو ما سيكون موضوع حديثنا الذي ينحصر في حقبة معيّنة من الزمن تمتد من أول الفتح العثماني، وهو، في نظري، التاريخ الحقيقي لقيام الإمارة المعنية في الشوف، الى نهاية الإمارة الشهابية، خليفة الإمارة المعنية ووريثتها.
وسوف نقسم بحثنا هذا الى موضوعين رئيسين هما:
أولاً - نظرة في تاريخ جبل عامل في عهد الإمارتين المعنية والشهابية (1516 - 1842).
ثانياً - الوجه العسكري للشخصية العاملية في العهدين المعني والشهابي.
أولاً - نظرة في تاريخ جبل عامل في عهد الإمارتين المعنية والشهابية
1 - في العهد المعني:
ورث العثمانيون، بعد فتحهم لبلاد الشام، عام 1516 تنظيمات إدارية وإقطاعية واضحة الصورة والمعالم، بل شبيهة بتلك التي كانوا يعتمدونها في معظم البلدان المحتلة والتابعة لامبراطوريتهم. لذا، لم يجد الفاتحون الجدد كبير عناء في فهم هذه الأنظمة وتبنّيها مع ادخال تعديلات طفيفة عليها تتناسب مع الأنظمة السائدة في الامبراطورية.
ولما كانت الامبراطورية العثمانية، في ذلك الحين، في أوجّ طموحها التوسعي، فقد كانت تكتفي من الأقطار التي تفتحها بالضرائب والجند، تاركة أمر الحكم فيها لولاة يتدبرون أمورهم بواسطة إقطاعيين غالباً ما يكونون من أهل تلك البلاد، كما حدث في بلاد الشام، وفي جبل عامل بالذات، إذ كانت تحكم هذا الجبل، في العهد المملوكي، أسر إقطاعية من الجبل نفسه، استمرت تحكمه في العهد العثماني على أن تدفع ما يترتب عليها من ضرائب، وأن تسوق الى الحرب ما يترتب عليها من جند.
ولكن الصراع الدائر بين هذه الأسر الإقطاعية كثيراً ما كان يبدل الوجوه الحاكمة، فنرى أن الأسر التي حكمت جبل عامل في العهد المملوكي ومنذ القرن الثالث عشر ميلادي حتى القرن السادس عشر، مطلع العهد العثماني، هي أربع: الأسرة البشارية، نسبة الى الأمير حسام الدين بشارة بن أسد العاملي، والأسرة السودونية، نسبة الى آل سودون، وهي، على الأرجح، من المماليك المصريين، والأسرة الشكرية، نسبة الى آل شكر، والأسرة الصغيرية، نسبة الى علي الصغير حفيد الأمير محمد بن هزاع الوائلي، ونرى أن هذه الأسر تتصارع فيما بينها لتحل الواحدة منها محل الأخرى في حكم البلاد، أو تقتسم الحكم فيما بينها، وهكذا نرى الحكم الإقطاعي يبرز بروزاً جلياً في جبل عامل، في القرن الثالث عشر ميلادي، على يد حكام من آل وائل ورثوا الحكم عن الأمير حسام الدين بن بشارة العاملي، الذي كان له الفضل في جمع أجزاء هذه البلاد وتوحيدها حتى عرفت فيما بعد باسمه (بلاد بشارة)، ثم ينتقل، في النصف الثاني من القرن الخامس عشر، الى أسرة آل سودون التي استمرت في الحكم نحو مئة وستين عاماً، من عام 1478 الى أن انقرضت تماماً بعد معركة جرت بينها وبين آل الصغير عام 1639.
وقد شارك في هذه المرحلة من حكم جبل عامل أسرة أخرى، أصلها من قرية "عيناتا"، هي أسرة "آل شكر" التي ظلت تنافس "آل الصغير" على الحكم ردحاً من الزمن، وكانت قواعد حكم هذه الأسرة في قرى عيناتا وقانا وتبنين، ولكنها انقرضت، هي الأخرى، بعد معارك جرت بينها وبين آل الصغير في كل من عيناتا وقانا وتبنين، عام ،1649 حيث قتل معظم رجال آل شكر وفر الباقون، وتسلّم آل علي الصغير حكم البلاد بعدئذ، وتفردوا به، فحكموا بلاد بشارة الجنوبية (تبين وهونين وقانا ومعركة)، وجعلوا تبنين قاعدة لهم، وقد استمرت هذه الأسرة في حكم جبل عامل طويلاً، ولعبت دوراً حاسماً وهاماً في سياسة جبل عامل وتاريخه ومصيره.
إلا أنه، بعد الفتح العثماني مباشرة، برزت الى الوجود السياسي في جبل عامل أسرتان جديدتان، أخذتا تنافسان الأسرة الوائلية على الزعامة والسياسة، هما: آل صعب حكام الشقيف من بلاد بشارة الشمالية، وقاعدتهم النبطية، وآل منكر حكام إقليمي الشومر والتفاح من بلاد بشارة الشمالية أيضاً، وقاعدتهم جباع.
وعلى الرغم من أن آل علي الصغير كانوا أكثر هذه الأسر نفوذاً وأقواها شكيمة، فقد كان لكل أسرة استقلالها الإداري بالمقاطعة أو المقاطعات التي تحكمها، فالحاكم الإقطاعي حرّ في إدارة مقاطعته، يتصرف بشؤونها ويحمي حدودها، من دون أن يكون هنالك سلطة فوق سلطته، أما سلطة الدولة، فكانت إسمية، وتتلخص في حقها باستيفاء الضرائب والرسوم المقطوعة وفقاً لشروط الالتزام، ومن دون أن يكون لها الحق بالتدخل في الشؤون الداخلية للبلاد، وكان لكل حاكم جنده الخاص به للدفاع عن مقاطعته، حتى إذا هوجم واحد منهم هبّت باقي المقاطعات تسانده وتؤازره. وقد تمكنت هذه الأسر الثلاث، في فترات مختلفة، وبفضل قوتها وضعف الحكام الخارجيين، من الاستقلال بمقاطعاتها استقلالاً ذاتياً يكاد يكون تاماً.
إلا أن ذلك لم يكن يعني أن جبل عامل خارج عن سلطة الامبراطورية العثمانية، فقد كان الولاة العثمانيون "يلزمون" جباية الرسوم والضرائب المترتبة على جبل عامل الى من يرغب من رجال الإقطاع في ذلك العهد، عاماً بعد عام، وكان أول من تقدم من آل معن لالتزام مقاطعات جبل عامل هو الأمير فخر الدين المعني الثاني أمير الشوف، الذي التزم سنجقية صفد عام 1603 من مراد باشا والي الشام، ونازعه عليها بعد ذلك الأمير يونس الحرفوش أمير البقاع، وكان هذا النزاع سبباً لخصومات ومعارك شديدة بين الطرفين كان النصر في نهايتها للأمير المعني، الذي استطاع أن يستولي على جبل عامل طيلة مدة حكمه في إمارة الشوف، ففي عام 1612 كانت قلعتا بانياس والشقيف بيد فخر الدين، وكان وكيله على بانياس، الشيخ حسين اليازجي، وكيلاً كذلك على القسم الشرقي من بلاد بشارة، ووكيله على الشقيف، الشيخ حسين الطويل، وكيلاً على إقليمي الشومر والتفاح.
وفي أثناء غياب الأمير فخر الدين بتوسكانة (1613 - 1618) تسلّم أخوه الأمير يونس بلاد عاملة، متخذاً صور مقراً له، كما تسلّم الشيخ حسين اليازجي مقاطعة تبنين، وجعلها مقراً له، "وكانا يقودان الشعب بأجمعه وقت الحاجة ويوجهانه حيث أرادا"، حتى إن العامليين حاربوا الى جانب المعنيين ضد آل سيفا حكام طرابلس، في وقعة الناعمة عام ،1616 وبقيادة ابنه الأمير علي المعني، فكانت ميسرة الجيش المعني في هذه الوقعة من العامليين ومن رجال الأمير علي الشهابي حاكم وادي التيم، كذلك حارب العامليون الى جانب المعنيين، في معركة عنجر الشهيرة عام ،1623 ضد مصطفى باشا والي الشام وحلفائه الحرفوشيين حكام البقاع والسيفيين حكام طرابلس، إذ اشتركوا في هذه المعركة بفرقة قوامها ألف مقاتل بقيادة مصطفى مدبر الأمير فخر الدين، كما حاربوا الى جانب فخر الدين في حملته على عكار عام 1618 - 1619 وكانوا بقيادة ابنه الأمير علي، وفي معركة فارا التي جرت في أثناء حملته على فلسطين عام ،1623 وكانوا بقيادة طويل حسين بلكباشي.
إلا أن غياب الأمير فخر الدين عن المسرح السياسي عام ،1633 أضعف سلطة خلفائه المعنيين، الذين لم يكن حكمهم في جبل عامل مستمراً ومستقراً تماماً، بل تخلّلته ثورات واضطرابات كثيرة، وهكذا نرى العامليين يخوضون، في فترة الحكم المعني بالذات، معارك عديدة ضد المعنيين أنفسهم وضد الولاة العثمانيين، وأهم هذه المعارك:
- وقعة أنصار (1638): كان العثمانيون قد ولّوا على الإمارة المعنية، بعد أسر فخر الدين وسوقه الى الاستانة عام ،1633 الأمير علي علم الدين زعيم الحزب اليمني، والخصم اللدود لآل معن، بينما فرّ الأمير ملحم بن الأمير يونس المعني، وهو الأمير الوحيد الذي بقي حراً من أسرة آل معن، الى قرية "عرنا" بسفح جبل الشيخ، حيث لجأ الى أحد أنصار أسرته، ومن هناك بدأ يتصل بأنصاره من الحزب القيسي، مهيئاً نفسه لمعركة فاصلة مع العثمانيين وحلفائهم اليمنيين، الحكام الجدد للإمارة، فخاض، ضد هؤلاء وأولئك، معركة في أرض "القيراط"، قرب قرية "مجدل معوش" بالشوف، عام ،1635 كان النصر فيها حليفه، وفرّ الأمير علي علم الدين اليمني على أثر هذه المعركة وتشتّت جيشه، فلجأ الى قرية "أنصار" بجبل عامل مستنجداً بمشايخها من آل منكر، وكانوا يوالونه، ضد الأمير المعني، فلما علم الأمير ملحم بذلك جهّز جيشاً وقصد "أنصار" عام 1638 لمداهمة الأمير علي فيها، ولكن هذا الأخير تمكن من الفرار وأرسل يطلب النجدة من والي الشام، الذي أرسل لمساعدته فرقة من السكمان توجهت لقتال الأمير ملحم، الذي ما إن علم بتوجهها إليه، حتى ترك "أنصار" بعد أن هدمها وقتل نحو ألف وخمسمئة من أهلها، إذ اتهمهم بالانحياز الى خصومه اليمنيين.
- وقعة عيناتا (1660): ألحق جبل عامل بباشوية صيدا عند إنشائها هذا العام (1660)، وقد جرت هذه الوقعة بين العامليين وبين علي باشا الكبرلي أول وال على صيدا، ولم يصلنا أي تفصيل لها، فقد ذكرها الشيخ علي السبيتي في المجموعة التي نشرها في مجلة العرفان إذ قال: "ان الشيعيين، في أوائل حكم الأتراك العثمانيين، وقعت بينهم وبين الطوائف المجاورة معارك عدة كانت الحرب فيها سجالاً، فمنها معركة أنصار سنة 1048هـ = 1638م مع الأمير ملحم بن معن، ومعركة عيناتا سنة 1070 هـ = 1659م، ومعركة النبطية سنة 1077هـ = 1667م الخ.." من دون أن يذكر أي تفصيل عن هذه الوقعة، كذلك ذكرها المؤرخ الأمير حيدر أحمد الشهابي، في أحداث العام 1071هـ = 1661م إذ قال: "وفي هذه السنة قدم علي باشا والي صيدا، وهو أول من تولاها من الباشوات، وكانت فتنة عظيمة بينه وبين مشايخ المتاولة" من دون أن يذكر أسباب هذه الفتنة وموقعها، وذكرها المؤرخ محمد تقي آل فقيه مستنداً في تحديد موقع المعركة الى كتاب "جبل عامل في قرنين"، وهو مجموعة من المقالات التي نشرها الشيخ علي السبيتي في العرفان، ويكتفي آل فقيه من ذكر هذه الوقعة بقوله: "إن الأمير ملحم مات سنة 1070هـ وفرّ ولداه قرقماز وأحمد، وأصبحت صيدا باشوية، ودخلها الباشا على أثر هذا الانقلاب، فحاول العامليون استغلال الموقف، فقامت الحرب على ساق بينهم وبين الباشا الجديد، وكانت الخسائر فادحة والضحايا كثيرة والواقعة عظيمة". ويضيف قائلاً: "ولا نعرف ماذا عقبته، ولا أي شيء أنتجته على التفصيل، غير أننا نظن أنهم - أي العامليون - تولّوا إدارة البلاد بأنفسهم".
- وقعة النبطية (1666): جرت بين العامليين والأمير أحمد المعني آخر حكام المعنيين، وقد ذكرها السبيتي في مجموعته مشيراً الى انتصار المشايخ العامليين فيها، وأوضح الشيخ أحمد رضا بعض أسبابها فقال: "واغتنم المتاولة فرصة الوهن الذي طرأ على الحكومة المعنية في زمن الأمير أحمد فأعلنوا استقلالهم عن لبنان وخرجوا عن طاعة أمرائه، فغزاهم الأمير أحمد سنة 1077هـ في النبطية مقر الصعبية حكامها، فارتد عنها عسكره منهزماً بعد ملحمة كبرى، فاستجاش عليها والي صيدا، فأتاها هذا في العام القابل غازياً، وكان نصيبه كنصيب صاحبه المعني، حيث لحق المتاولة المنهزم الى عين المزارب قرب صيدا"، وذكرها الشيخ سليمان ظاهر بقوله: "من الحوادث التي وقعت في النبطية، ولم يذكرها المؤرخان الدبس والشدياق، وجاء ذكرها في المخطوطات العاملية، أن الأمير أحمد المعني جاءها سنة 1077هـ، في أربعة آلاف رجل، لمقاتلة أبي صعب، فقاتلوه وكسروه كسرة عظيمة، وقتلوا من عسكره زهاء مئتي رجل وقتل منهم خمسة رجال" إلا أن محمد جابر آل صفا روى هذه الوقعة بشكل آخر ربما كان أقرب الى المنطق والواقع إذ قال: "حتى إذا... ظهر الوهن في حكومة المعنيين، نهض زعماء العشائر من بني عاملة واجتمعت كلمتهم.. فنظموا صفوفهم وثاروا في سنة 1077هـ - 1666م ثورة رجل واحد، وطردوا عمال أرسلان باشا وفتكوا فيهم، فأرسل الوالي حملة عليهم مستعيناً بجنود آل معن، فنازلوهم في النبطية ووادي الكفور، وكان الفوز للشيعيين".
- وقعة وادي الكفور (1667): ذكرها بعض المؤرخين العامليين مثل السبيتي وآل صفا وآل فقيه (نقلاً عن السبيتي) من دون أن يذكروا أي تفصيل لها، كما لم يذكرها باقي المؤرخين أمثال الشهابي والدويهي والدبس والشدياق، وربما كانت امتداداً لوقعة النبطية كما صنّفها الاستاذ آل صفا مبيّناً أن الحملة التي أرسلها الوالي، بالتعاون مع المعنيين، قاتلت العامليين "في النبطية ووادي الكفور".
- معارك أخرى: وقد أشار بعض المؤرخين العامليين الى معارك أخرى جرت في هذه الفترة من دون أن يسموها، فقال الشيخ أحمد رضا، بعد ذكره لوقعتي أنصار والنبطية: "ثم استعرت نار الوقائع بين أمراء لبنان ومشايخ المتاولة فكانت بينهم سجالاً" وقال آل صفا بعد ذكره لوقعة النبطية: "ودامت المناوشات نحو ثلاثين سنة، حتى سنة 1109هـ = 1697م" وقد تبعهم في ذلك بعض المؤرخين العامليين مثل آل فقيه وسواه، إلا أننا لا نجد لذلك أثراً عند مؤرخين أمثال الشهابي والدويهي والدبس والشدياق، وربما كان مرد ذلك هو أن جبل عامل لم يكن في هذه الفترة تحت سلطة المعنيين مباشرة.
2 - في العهد الشهابي:
سقطت الإمارة المعنية عام 1697 وخلفتها الإمارة الشهابية حيث تولى الأمير بشير الأول الحكم فيها، وعلى الرغم من تبدّل الحكام في هذه الإمارة، فإن الخط السياسي العام الذي اتبعه زعماء جبل عامل تجاه الحكم الشهابي لم يتبدل عما كان عليه تجاه الحكم المعني، إذ أنه، كما في عهد الأمراء المعنيين الذين خلفوا فخر الدين الثاني، لم يكن للأمراء الشهابيين في جبل عامل حكم ثابت مستقر، وعلى الرغم من أن كلاً من هؤلاء الأمراء كان يطمح الى أن يتولى حكم هذا الجبل، بضمان من والي صيدا، فغالباً ما كانت مهمتهم تنحصر في معاونة هؤلاء الولاة في جباية الأموال والضرائب المترتبة على العامليين، إذا تمنع هؤلاء عن دفعها، وهكذا نرى بشير الأول، بعد عام واحد من توليه الحكم، أي عام ،1698 يلبي دعوة أرسلان باشا المطرجي والي صيدا، ويزحف الى جبل عامل بجيش قوامه 8 آلاف مقاتل، ليخضع أحد زعمائه الشيخ مشرف بن علي الصغير، الذي خرج على الوالي وقتل بعض أعوانه واعتصم في قريته (المزيرعة، أو المزرعة، أو مزرعة مشرف)، فيقاتله الأمير فيها وينتصر عليه ويقتل عدداً كبيراً من جماعته، ثم يقبض عليه وعلى أخيه محمد بن علي الصغير ويسوقهما الى الوالي الذي يسجنهما، وتطلق يد الأمير مقابل ذلك في صفد ومقاطعات جبل عامل (بلاد بشارة ومقاطعة الشقيف وإقليمي الشومر والتفاح). وتسلّم الأمير حيدر عام 1706 حكم الإمارة الشهابية، فكان أول عمل قام به هو محاولة السيطرة على جبل عامل، وكان بشير باشا الذي أصبح والياً على صيدا، قد أعاد الشيخ مشرف الى حكم مقاطعته في بلاد بشارة (وكان أرسلان باشا قد سبق وأطلق سراحه)، والتمس الأمير حيدر من بشير باشا حكم جبل عامل بعد أن أغراه بالمال، فأقطعه أياه، وفي عام 1707 زحف الأمير حيدر على جبل عامل بجيش قدّره بعض المؤرخين بـ12 ألف مقاتل، (يزبك، أوراق لبنانية، حزيران ،1956 ص 277)، وكان آل الصغير قد اعتصموا، مع حلفائهم من آل منكر حكام إقليمي الشومر والتفاح وآل صعب حكام الشقيف، في بلدة النبطية، فهاجمها الأمير حيدر، ودارت بين الفريقين معركة انتهت بانتصار الأمير الشهابي واحتلاله للبلاد، حيث نصب عليها متسلماً من قبله هو الشيخ محمود أبو هرموش، بينما تشتت آل الصغير وحلفاؤهم تاركين حكم الجبل للأمير الشهابي.
ولم يكن الحال بين الشهابيين والعامليين في عهد الأمير ملحم (1732 - 1754) بأفضل منه عما كانت عليه مع من سلفه من حكام هذه الإمارة، إذ استهل الأمير ملحم المذكور حكمه بإظهار طموحه للتوسع نحو مقاطعات جبل عامل، ففي عام 1734 طلب من سليمان باشا العظم والي صيدا أن يقطعه بلاد بشارة، وكان زعماؤها، من آل الصغير، قد خرجوا عن طاعة الوالي وامتنعوا عن أداء الأموال الأميرية إليه، فأقطعه إياها، فقام الأمير ملحم بحملة على هذه البلاد حيث نازل زعماءها في بلدة (يارون) فهزمهم، وفرّ آل الصغير الى القنيطرة.
ويذكر دي لان De Lane قنصل فرنسا بصيدا عام 1734 هذه الوقعة في رسالة وجهها بتاريخ 20 آب من العام نفسه الى الكونت دي موريباس C. De Maurepas وزير الدولة الفرنسية، فيقول "ان الصدر الأعظم حانق بسبب رفض مشايخ المتاولة دفع الضرائب وبعض الأموال المترتبة عليهم له ولحكامه، وقد كلف سليمان باشا (والي صيدا) وأمير الدروز - يقصد الأمير ملحم - مهمة حصار قلاعهم وتصفيتهم جميعاً، وهكذا دخل الأمير، عند تلقيه هذا الأمر، بلاد المتاولة، بجيش مقداره خمسة عشر ألف مقاتل حيث نشر النار والدماء في كل مكان حل فيه".
Ismail Adel, Documents diplomatiques et consulaires, T, 2 p77
وفي عام 1743 خرج المناكرة والصعبية على الوالي سعد الدين باشا العظيم، والي صيدا فأرسل الأمير ملحماً لتأديبهم، ودارت بين الفريقين معركة ضارية في جوار قرية (أنصار) انتهت بهزيمة العامليين ولجوئهم الى داخل القرية، حيث أقدم الأمير ملحم على اقتحامها وإحراقها، ثم عاد بعسكره الى دير القمر، بعد أن خسر العامليون في هذه المعركة نحو ألف وستمئة قتيل، كما قبض الأمير على أربعة من مشايخهم.
وفي عام 1750 اعتدى المناكرة على إقليم جزين وكان داخلاً في حكم الجنبلاطيين حلفاء الشهابيين، فقتلوا اثنين من أتباع الشيخ بشير جنبلاط حليف الأمير ملحم، فحشد هذا الأخير جيشاً وسار لقتالهم حيث لقيهم في قرية (جباع الحلاوة) فقاتلهم وقتل منهم نحو ثلاثمئة رجل.
مرت ولاية الأميرين منصور وأحمد الشهابيين (1754 - 1763) ثم ولاية الأمير منصور منفرداً (1763 - 1770)، على الإمارة الشهابية من دون حوادث ذات أهمية بين العامليين والشهابيين، وذلك لأن الأمراء الشهابيين كانوا منشغلين في هذه الفترة بالخصومات والصراعات الداخلية فيما بينهم، مما قيض للعامليين نوعاً من الاستقلال الذاتي والتصرّف الحرّ، إلا أن ذلك لم يمنعهم من التحسّب واليقظة، خصوصاً وقد لقوا في خلال انتفاضاتهم المتعددة على الحكم العثماني، وبالتالي على الحكمين المعني والشهابي، من الشدة والقسوة ما جعلهم لا يطمئنون إلا لحكم زعمائهم، وكان عليهم، في الوقت نفسه، أن يزيدوا من قواهم الذاتية من جهة، وأن يبحثوا عن تحالفات عسكرية تتيح لهم الصمود والمنفعة من جهة أخرى، وفي هذه الأثناء، قام في العامليين زعيم وحد صفوفهم وجمع كلمتهم هو الشيخ ناصيف النصار من آل الصغير الذي وصفه "شيفالييه دي توليس" Chevalier de Taulés قنصل فرنسا بصيدا في رسالة منه الى "الدوق ديغويون" DucD'Aiguillon بتاريخ 28 حزيران 1772 بأنه "الشيخ الكبير الذي اشتهر في كل سوريا بشجاعته".
Ismail, Documents, T. 2 p240
كما قام في ديار عكا وصفد حاكم طموح وقدير ومتحفز هو الشيخ ظاهر بن عمر بن أبي زيدان، المعروف بظاهر العمر، تسلم تلك الديار من والي صيدا بشير باشا في أول عهده بالولاية عام ،1706 وأخذ يرقب، بعين حذرة ويقظة، ما يجري في شمال بلاده وجنوبها. ففي مصر حاكم يحلم بالتوسع شمالاً، نحو بلاد الشام، ويطمح للتعاون مع حاكم قدير في فلسطين يسهل له دخول تلك البلاد، هو علي بك الكبير وقائده محمد بك أبو الذهب، وفي جبل عامل مشايخ عانوا الكثير من الظلم العثماني المتحالف مع أمراء آل معن ومن بعدهم آل شهاب، فأضحوا تواقين للتحالف مع قوة تساندهم وتعزز قوتهم وتشد أزرهم، وهكذا التقى في ساحة فلسطين وعلى امتدادها شمالاً حتى صيدا، ثلاث قوى تكمل بعضها، هي قوة المصريين والصفديين والعامليين، وقد بلغ هذا التحالف أوجه عام 1771 مما حدا بدراغون Conféderation النائب التجاري للجالية الفرنسية بصيدا، الى تسميته بـ"اتحاد كونفدرالي" Conféderation بين مصر والشيخ ظاهر العمر والمتاولة ضد السلطان، وذلك في رسالة بعث بها الى الدوق ديغويون D'Aiguillon وزير الدولة الفرنسية بتاريخ 2 أيار 1771.
Ismail, Documents, T. 2 p169
إلا أن التحالف بين العامليين والشيخ ظاهر العمر لم يكن سهلاً في بدايته، فقد سبقه صراع مسلح بين شيخ مشايخ العامليين ناصيف النصار والشيخ ظاهر، حيث تقاتلا في معارك عدة أهمها معركة تربيخا عام 1750 التي هزم فيها ظاهر، وانتهت الحرب بين الفريقين بمعاهدة تحالف ودفاع وقعت بينهما في عكا عام 1767 "وحلفا اليمين على السيف والمصحف أن يكونا وشعباهما متضامنين متصافيين ما دامت الأرض والسماء"، وكان هذا التحالف قد تم بناء لوساطة بين المتخاصمين قام بها الأمراء الشهابيون وحلفاؤهم المشايخ الجنبلاطيون، وكانوا على علاقة حسنة بالفريقين في ذلك الحين. يحدثنا عن ذلك قنصل فرنسا في صيدا "كليرامبو" Clairambault في رسالة بعث بها الى وزير الدولة الفرنسية "الدوق دي براسلان" DucDeBraslin بتاريخ 23 نيسان 1767 يقول فيها "الشيخ ناصيف النصار هو اليوم شيخ مشايخ المتاولة الذين يقيمون من صيدا حتى أرض عكا، وهو يحمي الشيخ عثمان ابن الشيخ ظاهر العمر، الذي لجأ إليه - وكان الشيخ عثمان قد خرج عن طاعة أبيه فلجأ الى الشيخ ناصيف - وبما أن الحرب في هذه البلاد تهدأ ثم تتجدد كل ثلاثة أشهر، فإنها تنتهي بخراب أحوال الفلاحين، وبإعطاء المبرر لمشايخهم لتأجيل دفع الضرائب والمستلزمات المالية للوالي. وقد وصل الى هنا - أي الى صيدا - الأمير إسماعيل - أمير وادي التيم - وثلاثة من مشايخ الدروز هم الشيخ علي جنبلاط والشيخ عبد السلام العماد والشيخ كليب النكدي، وهؤلاء يعاضدون الشيخ ناصيف. فعملوا على إحلال الوفاق بينه وبين الشيخ ظاهر العمر".
Ismail, Documents, T2 p150 - 151
ولا يغربن عن بالنا أن هذا الوفاق قد تم في عهد الأمير منصور الشهابي الذي كان كما قيل عنه "لين العريكة لا يخلو من جبانة قليلة". فعمل على إحلال الوفاق محل الخصام بينه وبين العامليين طيلة مدة ولايته، حتى أضحوا يوالونه حقاً.
وما إن تم الوفاق بين الشيخين ناصيف النصار شيخ مشايخ جبل عامل والشيخ ظاهر العمر حاكم صفد وعكا، حتى انقلب هذا الوفاق الى تحالف وطيد، نظراً للعداوة التي كانا يكنانها كلاهما للعثمانيين والشهابيين، وهكذا، ما إن انتهت ولاية الأمير منصور، وخلفه في الحكم ابن أخيه الأمير يوسف، حتى انتفض العامليون مجدداً ضد حكم الوالي العثماني درويش باشا (والي صيدا) وذلك عام ،1771 فرفضوا دفع الأموال الأميرية وطردوا عمال الوالي من ديارهم، وأظهروا البغضاء للأمير يوسف الشهابي حليف هذا الأخير، فأقدموا على مهاجمة بلدة مرجعيون وقرى الحولة وهي، في ذلك الحين، من أعمال خاله الأمير اسماعيل أمير وادي التيم، فجهز الأمير يوسف لقتالهم جيشاً قدّر بعشرين ألف مقاتل من مشاة وخيالة، وأرسل الى خاله ليلاقيه بمن عنده من المقاتلين، ثم نهض من عاصمته دير القمر باتجاه صيدا حيث عسكر عند جسر الأولي، فبات ليلته هناك، وانطلق في اليوم التالي الى "جباع الحلاوي" حيث تحشد آل نمر وأنصارهم من آل الصغير وآل صعب، فلما عرف هؤلاء بضخامة الجيش الذي جاء به الأمير لقتالهم، تفرقوا ورحلوا عن البلاد من دون قتال، بينما وصل الأمير الى "جباع" فأحرقها كما أحرق جميع قرى إقليم التفاح.
واتصل العامليون بالشيخ ظاهر العمر، حليفهم، يطلبون منه العون والنجدة، وكانوا قد ناصروه مناصرة فعالة في معركة سبق وجرت، في آب من العام نفسه ،1771 ضد عثمان باشا الصادق والي دمشق، عند بحيرة الحولة، انتهت بهزيمة الوالي وسحق جيشه، وانتصار الشيخ ظاهر وحلفائه العامليين، فكتب بدوره الى الأمير اسماعيل أمير وادي التيم يتوسطه لكي ينصح ابن اخته الأمير يوسف بإحلال الصلح بينه وبين العامليين، وأرسل الأمير اسماعيل كتاب الشيخ ظاهر الى الأمير يوسف وطلب منه باسمه الشخصي، أن يتوقف عن مطاردة العامليين وإرهاقهم تجاوباً مع وساطة الشيخ ظاهر، ولكن الأمير يوسف رفض قبول الوساطة، كما أنه لم ينتظر وصول خاله الأمير اسماعيل الذي طلب منه البقاء في مركزه من دون قتال حتى وصوله، فانطلق بجيشه الى كفررمان فأحرقها، ثم الى النبطية (تشرين الأول 1771) حيث كان العامليون قد استقروا بعد أن جمعوا فلول مقاتليهم فبلغت نحو أربعة آلاف مقاتل، وانضم اليهم حليفهم الشيخ ظاهر العمر الذي أغاظه عدم قبول الأمير يوسف لوساطته، وعزم الجميع على ملاقاة المهاجمين، وما إن وصلت طلائع جيش الأمير يوسف الى النبطية حتى بادرها العامليون ورجال الشيخ ظاهر بالقتال، ويرى بعض المؤرخين أن الشيخ علي جنبلاط، الذي كان في صفوف الأمير مع رجاله، كان ميالاً للتفاهم مع العامليين ومصالحتهم، فلم ترقه هذه الحرب، وانكفأ برجاله، مما أدى الى تضعضع صفوف الجيش الشهابي ثم هزيمته، وانقض العامليون مع حلفائهم ساعتئذ على الجيش المنهزم فأوقعوا في صفوفه، حسب بعض المؤرخين، نحو ألف وخمسمئة قتيل، ولم ينقذ جيش الأمير يوسف إلا وصول خاله الأمير اسماعيل بجيشه، ولكن الأمير يوسف ظل يتقهقر بجيشه حتى دخل إمارته، وخاف درويش باشا والي صيدا من لقاء العامليين وحلفائهم ففر من المدينة، وقاد الشيخ ظاهر العمر الهجوم باتجاه الشمال، وكان ذلك طموحاً قديماً لديه، فدخل صيدا فاتحاً حيث مكث فيها مدة، ثم عيّن عليها متسلّماً من قبله هو أحمد آغا الدنكزلي، وغادرها الى فلسطين. وحكم العامليون صيدا في هذه الفترة، وأقاموا فيها يتحرشون بإمارة الأمير يوسف، واستقرت العداوة بين الأمير يوسف وحلفائه العثمانيين من جهة، والشيخ ظاهر وحلفائه العامليين من جهة أخرى، ولم يكن ممكناً أن تسمح السلطنة للشيخ ظاهر وحلفائه بهذا الانتصار، فأرسل عثمان باشا والي دمشق يطلب من الأمير يوسف تجهيز جيش لمقاتلتهم، وكتب الى خليل باشا والي القدس ومعه الجزار أن يرافقه في هذه الحملة، وأمدهما بكل ما يلزمهما من معدات القتال، فتجمع للأمير يوسف نحو عشرين ألف مقاتل ضربوا حصاراً حول صيدا مدة أسبوع كامل كاد الدنكزلي في نهايته أن يسلم المدينة، لولا أن الشيخ ظاهر أوفد سفناً مسكوبية حربية (استأجرها لهذا الغرض) فأطلقت مدافعها على الجيش المحاصر، مما اضطره الى فك الحصار عن المدينة.
وعلى الرغم من ذلك، فقد حاول الشيخ ظاهر أن يتحاشى استئناف القتال، فأرسل الى الأمير يوسف يطلب منه أن يرجع بعسكره الى جسر الأولي شمالي صيدا، إلا أن الأمير أبى ذلك، فزحف الشيخ ظاهر وحلفاؤه المصريون والعامليون تجاه صيدا لاحتلالها، والتقى الجيشان في سهل "الغازية" جنوبي شرقي صيدا (في حزيران 1772)، حيث جرت بينهما معركة انتهت بهزيمة الأمير يوسف وحليفه خليل باشا والي القدس، وطارد الشيخ ظاهر وحلفاؤه فلول جيش الأمير يوسف حتى وصلت حدود الإمارة، بينما فر خليل باشا بمن معه الى دمشق بعد أن خسر نحو خمسمئة رجل، أما خسارة الشيخ ظاهر فكانت نحو ألف رجل. ولم يكتف الشيخ ظاهر بهذه الهزيمة، بل أرسل السفن المسكوبية لحصار مدينة بيروت بحراً - وكانت محمية شهابية - فدمرت بمدافعها بعض أبراج المدينة، ثم نزل عسكر هذه السفن اليها فنهبوها وعادوا الى سفنهم، وظل حصار السفن المسكوبية لبيروت قائماً الى أن دفع أمراؤها مبلغاً من المال قبضه قائد الأسطول وعاد قافلاً الى عكا.
واستمر التحالف بين العامليين بقيادة الشيخ ناصيف النصار وبين المصريين بقيادة علي بك والصفديين بقيادة الشيخ ظاهر العمر، قوياً ومتيناً، حتى عام ،1774 حيث دب الخلاف بين محمد بك أبو الذهب الذي خلف علي بك في حكم مصر بعد وفاته، وبين الشيخ ظاهر، فأشهر أبو الذهب الحرب على حليفه الشيخ ظاهر، وهاجم بلاده بستين ألف مقاتل، مما اضطر الشيخ ظاهر الى الفرار بينما احتل أبو الذهب عكا وصفد وصور وصيدا، إلا أنه لم يستمر في حكم هذه البلاد سوى أيام معدودات، إذ توفي فجأة فانسحبت الجيوش المصرية وعاد الشيخ ظاهر الى عكا، ولكنه اغتيل عام 1776 على يد أحد رجاله من أتباع الدنكزلي، وتسلّم أحمد باشا الجزار ولاية عكا، فكان أول همه إخضاع جبل عامل لسلطته، وزحف إليه بجيش لجب عام ،1781 وتصدى له ناصيف النصار مع حلفائه من مشايخ هذا الجبل، ودارت بين الفريقين معركة ضارية هي معركة (يارون) التي انتهت بانتصار الجزار ومقتل النصار مع عدد يراوح بين 300 و400 من فرسانه ومقتل عدد من المشايخ العامليين. ويتحدث أرازي Arazy قنصل فرنسا العام في صيدا عن هذه المعركة، في رسالة منه الى الكونت دي فيرجين C. De Vergennes وزير الدولة، بتاريخ 2 تشرين الأول 1781 فيقول: "ان موت الشيخ ناصيف ونحو 300 أو 400 من فرسانه مع عدد من المشايخ، وضع، بضربة واحدة، حداً لهذه الحرب، وذلك بتشتيت باقي المشايخ الذين وقع إثنان منهم في قبضة الباشا".
Ismail, Documents, T2 p385
وبمقتل الشيخ ناصيف خضع جبل عامل لحكم الجزار طيلة ربع قرن حتى وفاة هذا الأخير عام 1804.
منذ أن تولى أحمد باشا الجزار حكم ولاية عكا (بما فيها جبل عامل وصيدا) لم يعد للشهابيين يد في هذه الولاية، وهكذا، فقد انقضت ولاية الأمير يوسف (عام 1790)، والعقد الأول من ولاية الأمير بشير الثاني الكبير حتى وفاة الجزار (1804)، من دون أن يكون لهؤلاء الأمراء في جبل عامل أي تأثير، ولكن العامليين، الذين تعودوا التمرد والثورة على كل حكم أجنبي، وأنسوا في حياتهم شيئاً من الحرية والاستقلال الذاتي، لم يستكينوا لحكم الجزار الذي تميّز بالغلظة والقسوة، فحكم البلاد بالحديد والنار، وقضى على قسم كبير من زعمائهم وشرّد القسم الآخر الى عكار وحلب والأناضول، وهاجر العلماء والمثقفون الى البلاد الإسلامية النائية كالهند والعراق وإيران وأفغان خوفاً من بطش الجزار وظلمه، فأصبح تاريخ احتلال الجزار لجبل عامل نهاية فترة من الحكم الذاتي تمتع به الجبل طويلاً، ولكن البلاد عرفت في عهد الجزار عدداً من الانتفاضات كتلك التي قام بها الشيخ حمزة بن محمد النصار من آل الصغير والشيخ علي الزين صاحب شحور، اللذان شكلا فرقة من الثوار أخذت تهاجم المراكز الحكومية العائدة للجزار، فهاجمت تبنين وقتلت الحاكم العام فيها وأصابت بعض أعوانه، إلا أن انتقام الجزار كان شديداً، إذ فاجأ المتمردين في بلدة شحور بفرقة من جنده فقضى على زعيمهم الشيخ حمزة وفر الشيخ علي الى إيران وتشتت شمل المتمردين جميعاً.
يستدل من ذلك أن هذه الانتفاضات في عهد الجزار لم تكن منظمة ولم يقيض لها زعيم كناصيف النصار يوجهها التوجيه الصحيح، فغالباً ما كنت خالية من أي توجيه ثوروي أو أي غاية سياسية محددة، كما كانت لا تتورع عن إيقاع الضرر بالأهالي أو برجال الجزار لا فرق، يحدثنا الشيخ علي سبيتي في مجموعته عن هذا الموضوع فيقول: "كان دور العصابات والفدائيين أتعس دور مرّ على جبل عامل، وقع فيها، بين نارين، نار زبانية الجزار ونار رجال الثورة، فالزبانية التي كان يقذفها الطاغية تعيث في البلاد فساداً، وتضيق الخناق على الأهلين المساكين وتؤلف منهم فرقاً لمطاردة العصابات فلا تظفر بهم، والثوار يشنّون الغارات للسلب والنهب وحرق القرى وتدمير البيوت متغلغلين في بطون الأودية بين الأحراج والغابات ومعتصمين برؤوس الجبال".
ولكن الكابوس الخانق، الذي كانت شخصية الجزار المعروفة بالبطش والظلم والإرهاب قد فرضته على أهل جبل عامل طيلة حياته، ارتفع بعد مماته عام ،1804 وعلى الرغم من أن والياً جديداً عيّن على عكا هو سليمان باشا، إلا أن حرب العصابات في جبل عامل قد اتسعت وعمّت، وشملت سلطة الثوار عكا وصفد، فصاروا يفرضون الضرائب والرسوم على البلاد ويعاقبون المتمردين على أوامرهم، وقد قيض للعامليين، في هذه الفترة، زعيم قوي وقادر وذو نفوذ، كأبيه، هو فارس بن ناصيف النصار، الذي قاد الثورة ضد الوالي الجديد، وكان هذا "سلس القياد لين العريكة" بعكس الجزار سلفه، فقرر أن وسيلة التودد واللين مع ثوار بني عاملة أجدى من البطش والإرهاب، فتوسط لديهم الأمير بشير الثاني أمير الشهابيين (1790 - 1840) وكان هذا سياسياً قديراً ومحنكاً، استطاع بدهائه وقدرته السياسية، التوصل مع الثوار العامليين الى شروط للصلح تنهي الثورة، وقد وقع على هذه الشروط في بيت الدين، كل من جرجس باز معتمد الأمير وحسن الشيت معتمد الشيخ فارس النصار، وهي تتلخص بما يلي:
1 - العفو العام عن جميع الثائرين.
2 - إعادة إقليم الشومر الى جبل عامل وكان قد سلخ عنه بعد معركة يارون عام 1781.
3 - أن لا يكون لموظفي الدولة سلطة على الجبل، وأن يرجع أهله في حل خلافاتهم الى عميدهم الشيخ فارس (النصار) الذي يمثلهم تجاه الحكومة وبه تحصر الاتصالات وعليه تعود المسؤولية (تاريخ جبل عامل، لمحمد جابر آل صفا، ص 141).
وقد وافق والي عكا سليمان باشا وراغب أفندي معتمد الباب العالي على هذه الاتفاقية، فكانت موافقتهما اعترافاً صريحاً بنوع من الحكم الذاتي لجبل عامل، وهو الأمر الذي حرم منه هذا الجبل طيلة حكم الجزار، وقد اتخذ الشيخ فارس بلدة (الزرارية) مقراً له حيث بنى فيها داراً للرئاسة على نفقة الدولة.
وظلت هذه المعاهدة قائمة حتى ولاية عبد الله باشا الذي خلف سليمان باشا في عكا، وفي عام 1821 عقد عبد الله باشا مع مشايخ جبل عامل اتفاقاً جديداً أعاد اليهم بموجبه حكم بلادهم كما كان في السابق، وكان العامليون أوفياء للوالي المذكور، فخاضوا معه القتال ضد درويش باشا والي الشام في معركتي المزه وجسر بنات يعقوب، وظل الاتفاق قائماً بين عبد الله باشا وجبل عامل حتى عام ،1832 العام الذي احتل فيه ابراهيم باشا المصري بلاد الشام، فدخل جبل عامل في الحكم المصري الذي ألحقه بالإمارة الشهابية وكان قد تولاها الأمير بشير الثاني منذ عام ،1790 فكان إلحاقه بهذه الإمارة أحد أهم أسباب اشتراك العامليين بالثورة التي قامت فيما بعد في بلاد الشام على المصريين والشهابيين معاً، وذلك للنزاع البعيد الجذور الذي كان قائماً بين العامليين والشهابيين وقد سبق ورأينا منه أمثلة عديدة.
ثار العامليون على المصريين وحلفائهم الشهابيين، فكان ذلك أول مرة في تاريخهم يتحالفون فيها مع العثمانيين، الذين طالما حارب العامليون ولاتهم وثاروا عليهم، وولى الأمير بشير ابنه الأمير مجيد حكم جبل عامل فبطش هذا بالعامليين ونكل بهم، وسجن رجالهم وحقر علماءهم، واتخذ سياسة العنف والشدة سبيلاً لمعاملتهم بدلاً من اللين والمسايرة، فقاد ثورة العامليين عليه واحد من زعمائهم هو الشيخ حسين بن شبيب بن علي الفارس من آل صعب وأخوه محمد علي، وقد استمرت ثورة الصعبيين هذه ضد الشهابيين وحلفائهم المصريين ثلاث سنوات (1836 - 1839) كانوا في خلالها يهاجمون مراكز الحكومة ويطردون عمالها، ولم يتمكن الأمير مجيد الشهابي من إخماد هذه الثورة، فأخذ ينكل بأهالي الثوار وأقربائهم وذويهم، مما اضطر عدداً من وجهاء الجبل وزعمائه الى التدخل لوضع حد لثورة الصعبيين بشرط الحفاظ على كرامة زعيميها وحياتهما، الا أنهما أبيا ذلك وفضلا مغادرة البلاد الى حوران وضواحي دمشق، ولكن مرضاً ألم بأحدهما الشيخ حسين فظل في منزله بقرية (ياطر) حيث قبض عليه واقتيد الى المشنقة مع واحد من أتباعه، أما أخوة محمد علي فقد فر الى خارج البلاد ولم يعد طيلة حياته.
ولكن لم تكن تلك نهاية الثورة ضد الحكم المصري والشهابي في جبل عامل، فقد حمل لواءها من جديد وفي عام 1840 واحد من أشهر زعماء آل الصغير بعد ناصيف النصار، هو حمد البك المحمود، الذي أعلن الثورة في وقت كانت الدول الكبرى قد اتفقت فيما بينها على انتزاع بلاد الشام من محمد علي واعادتها الى حكم السلطنة، وتحركت الجيوش العثمانية براً تساندها الأساطيل الإنكليزية بحراً، لتنفيذ هذا الاتفاق، ووصلت طلائع هذه الجيوش الى حلب، عندها انطلق حمد البك بثورته من جبل عامل، فقاتل الأمير مجيداً الشهابي حليف المصريين عند "جسر القعقاعية" وكان هذا الأمير مكلفاً مهمة إخضاع جبل عامل من قبل أبيه، فهزمه حمد البك وتابع سيره مع فرقته شمالاً حتى وصل بها الى حمص، حيث اتصل بالجيش العثماني المرابط هناك، فانضم إليه واشترك معه في محاربة المصريين، مظهراً من البطولة ما أكسبه ثناء القائد العثماني عزت باشا وإعجابه، فعيّنه حاكماً لجبل عامل ومنحه لقب شيخ مشايخ بلاد بشارة، وعهد إليه بمطاردة الجيش المصري في الجنوب، فعاد حمد البك ليقاتل فلول هذا الجيش المنهزم في رميش ووادي الجش وشفا عمرو حيث طردهم منها، واستولى على صفد وطبريا والناصرة وأجلى المصريين عنها، وما أن استقر الحكم العثماني في جبل عامل من جديد حتى ثبت حمد البك في منصبه كحاكم عام على هذا الجبل، وظل كذلك حتى وفاته عام ،1852 حيث خلفه في الحكم رجل يدعى علي بك الأسعد الذي توفي عام ،1865 فكان آخر الحكام الاقطاعيين الذين تولوا حكم جبل عامل في هذه الفترة، إذ حكمت الدولة العثمانية، بعد هذا التاريخ، بلاد عاملة حكماً مباشراً، فانتهت بذلك حياة جبل عامل السياسية، وزال الحكم الإقطاعي المحلي من البلاد.
يذكر الدكتور عادل اسماعيل في كتابه (السياسة الدولية في الشرق العربي، جـ2:60) أن محمد علي باشا حاكم مصر كان ينادي بتحرر الشعوب العربية "التي تكون مصدر قوة السلطان بالمال والرجال وتعيش في الامبراطورية العثمانية حياة التابع البائس المستضعف" وان أحد مرافقي ابنه القائد ابراهيم باشا سأل هذا القائد يوماً، وفي أثناء حصاره لعكا، الى أي مدى ستصل فتوحاته؟ فأجاب: "الى حدود البلاد التي لا يتكلم فيها الناس ولا يتفاهمون باللسان العربي".
ويقدم الاستاذ جوزف حجار في كتابه "أوروبا ومصير الشرق العربي ص84 - 99" شواهد وأدلة عديدة تدل على أن محمد علي باشا كان يطمح لتأسيس "امبراطورية عربية" فتية على امتداد البلاد الناطقة بالعربية، بدلاً من الامبراطورية العثمانية الهرمة. ان من يطلع على خفايا المسألة الشرقية في هذه الفترة من تاريخها، وعلى الأدوار الرهيبة التي قامت بها الدول الكبرى الخمس، خصوصاً وزراء خارجيتها في عواصمهم، وسفراؤها في عاصمة السلطنة، وقناصلها في كل من بيروت والاسكندرية، وعلى الجهد المضني الذي بذلوه، والموقف الصلب الذي وقفوه في وجه طموح محمد علي، فمنعوا عنه أي انتصار يمكن أن يصل به الى حد تأسيس امبراطورية عربية، أو الى حد الطموح الى السلطنة، حتى إنهم وقفوا حائلاً بينه وبين أي نوع من التفاهم مع الباب العالي، يرى حرص هذه الدول، وهي غير حسنة النية ولا شك، على أن تظل الامبراطورية العثمانية قائمة بهيكلها المتداعي وكيانها المشرف على الانصهار، لا رغبة في مساعدتها وحباً بالإبقاء عليها، وإنما لإبعاد شبح قيام امبراطورية مماثلة ولكن بدم جديد أكثر حرارة وذات وشائج أكثر متانة، ولكي يتم، في الوقت المناسب، تقويض أركانها، بقصد اقتسام الرجل المريض وتوزيع تركته فيما بينها، فتنال كل دولة حصتها من الغنيمة، تماماً كما حصل بعد الحرب العالمية الأولى.
ثانياً - الشخصية العامليةفي عهد الإمارتين: الوجه العسكري
كان بودّي، في بحثي هذا، أن أتحدث عن الشخصية العاملية في عهد الإمارتين بوجهيها الاجتماعي والفكري، وهما وجهان مشرقان، وغنيان بالتقاليد العريقة والآثار الفكرية المتطورة، لولا أن ضيق المجال لا يسمح بذلك، فالتحدث عن الشخصية العاملية بجميع جوانبها يتطلب ولا شك بحثاً مستقلاً، بالإضافة الى أنه ربما كان لغيري ممن هم أكثر مني جدارة واختصاصاً، في المجالين الاجتماعي والفكري، أن يقوموا بهذا العمل، لذا رأيت أن أختتم هذا البحث بنظرة في الوجه العسكري، دون سواه، من الشخصية العاملية.
لم تكن القوى المسلحة في جبل عامل مختلفة عن غيرها من القوى الممثلة في الإمارات والمقاطعات في بلاد الشام، والتي كانت تشكل وفقاً لنظام الإقطاع الذي كان سائداً في ذلك الحين، إلا أنه لم يتوفر لدى مؤرخي هذه الفترة من تاريخ جبل عامل، في المجال العسكري، ولأسباب عديدة لا مجال لذكرها هنا، معلومات تجعل الباحثين يحددون، بوضوح وبالتفصيل، تنظيم هذه القوى وعديدها ومستواها، وأن تجمع لديهم معلومات وافرة عن المعارك التي خاضها هذا الجبل في العهدين المعني والشهابي.
ويحدثنا بعض المؤرخين العامليين أن الأسر الإقطاعية التي كانت تحكم جبل عامل في عهد الإمارتين كانت تلتزم، مبدئياً، بما يلتزمه رجال الإقطاع تجاه السلطة المركزية من.. "تأمين الطرق وحفظ الأمن داخل المقاطعة" وأن يلبي الإقطاعي، "برجاله وفرسان مقاطعته، دعوة والي الايالة عند وقوع حرب أهلية أو دولية، ويشترك في أي معركة يوجه إليها"، ولا غرو فقد كان الشعب العاملي، كما يصفه أحد مؤرخيه "شعباً حربياً باسلاً يهزأ بالمنايا، ويرى الموت حياة خالدة تحت شفار السيوف"..
وقد اتقن العامليون بعض فنون الحرب ومارسوها ممارسة عملية، يصف لنا المؤرخ آل صفا هذا الشعب بقوله "وانصرف الشعب العاملي كله في ذاك العهد - والحديث عن العهد العثماني - لممارسة فنون الحرب وأحكام خطتي الدفاع والهجوم، وكانوا لا همّ لهم في فترات السلم إلا شحذ السيوف وتسديد المرمى والكر على ظهور الخيل يعلمونها أولادهم منذ الصغر" وأما نظام الدفاع عن البلاد "فقد كان على درجة من الرقي تدهش الباحثين" ومن فنون القتال التي اتقنها العامليون: الرمي بالبنادق، وضرب الرماح، وسرعة الالتئام والتعبئة عند إعلان النفير، والكر في الهجوم، واليقظة والحذر في الدفاع، وتحصين القلاع والحصون وشحنها بالسلاح والمقاتلين وإجادة القتال فيها.
وكان لكل مقاطعة من مقاطعات جبل عامل راية خاصة يلتئم المقاتلون حولها، إلا أن الاتحاد بين هذه المقاطعات كان تاماً ومتيناً، خصوصاً في زمن الحرب وأوقات الخطر، فإذا هوجمت إحداها "هبّت المقاطعات كلها هبّة واحدة، واتحدت كلمتهم على صد المعتدي بقوة السلاح" وكانت راياتهم من نسيج حريري أخضر وأحمر، وقد طرز عليها، بالنسيج الأبيض، آيات قرآنية وعبارات دينية مثل: "نصر من الله وفتح قريب" أو "لا إله إلا الله محمد رسول الله" أو "لا فتى إلا علي ولا سيف إلا ذو الفقار"، وكانت راياتهم تتقدم جيوشهم في أثناء القتال.
وكان إطلاق النار هو الإشارة الرسمية للتعبئة عندهم "فإذا سمعوا طلقاً نارياً في احدى قراهم أجابوا بإطلاق الرصاص طلباً للنجدة، وتتبعهم في ذلك القرى المتصلة حتى يمتد الصوت على ما قيل من جباع في سفح لبنان الى البصة على حدود عكا".
أما أسلحة المقاتلين فكانت في معظمها البنادق والسيوف والخناجر والرماح، وكانوا يقاتلون مشاة وفرساناً، وكانوا يتحصنون في القلاع مستخدمين النار المحرقة وبعض أنواع المدافع والبنادق، وأما عدد المقاتلين في جبل عامل في ذلك الحين فلم نعرف له رقماً محدداً، وان كنا نعلم أن هذا العدد قد بلغ في عهد التحالف العاملي مع الشيخ ظاهر العمر، أي في النصف الثاني من القرن الثامن عشر ميلادي، نحو عشرة آلاف مقاتل.
وقد عرف العامليون صنع الذخائر، كالبارود، الذي اشتهرت بصنعه قرية "بيت ليف" العاملية.
وكان جبل عامل، منذ القدم، منطقة حصينة ومنيعة، أنشئت فيها قلاع وحصون عديدة تعهدها العامليون باستمرار، وان لم يكونوا قد بنوها بأنفسهم، ولا بد من سرد أسماء أهم هذه القلاع لإظهار مدى أهمية هذا الجبل من الوجهة العسكرية لدى جميع الفاتحين، نذكر: قلعة الشقيف الشهيرة أو شقيف أرنون، وقلعة أبي الحسن، وقلعة هونين، وقلعة شمع (بناها آل الصغير عام 1163هـ) وقلعة دوبيه، وقلعة تبنين.
يذكر، في هذا المجال البارون دي توت Baron deTott في مذكراته التي نشرها عام 1784 بعنوان: "مذكرات عن الأتراك والتتار Mémoires sur les Turcs et les Tertares عن جبل عامل ما تعريبه: "ان القلاع التي يسكنونها - أي العامليون - تجعلهم أكثر تحفزاً للثورة، وتجعل إخضاعهم أكثر صعوبة. كل جبل عندهم حصن، وكل مالك إقطاعي كبير.. وقد اتفقوا على أن يدفعوا الضريبة السنوية للدولة، وقدرها مايتا كيس، ليتصرفوا بجبالهم وفي ظل زعمائهم".
)Tott, Memoires, T4 p122-123(
وكان العامليون يخضعون، في مجال التجنيد والتبعئة، الى النظم الإقطاعية السائدة في ذلك الحين، ولكن لم يعرف عنهم أنهم استخدموا جنوداً من المرتزقة كالسكمان وسواهم..
ومن العودة الى تقارير القناصل الفرنسيين في صيدا، في هذه الحقبة من الزمن، يمكننا أن نستنتج بعض المعلومات الهامة والمفيدة عن الوضع العسكري للعامليين في عهد الإقطاع، فقد وصف قنصل فرنسا في صيدا عام 1772 شيفالييه دي توليس Chevalier de Taulés في رسالة منه الى الدوق ديغويون Duc D'Aiguillon
وزير الدولة الفرنسية، بتاريخ 30 نيسان 1772 المقاتل العاملي بأنه "لم يكن معتاداً أبداً على البقاء طويلاً في ساحة القتال أو على خوض الحرب بعيداً عن موطنه" وذلك في مجال الحديث عن حصار علي بك المصري والشيخ ظاهر العمر ليافا في العام نفسه، إذ ترك معظم العامليين - كما يقول القنصل في الرسالة نفسها - ساحة القتال وعادوا الى قراهم. ليشيعوا أن "يافا حصن لا يؤخذ".
)Ismail, Documents, T2 p205(
ولكن ذلك لا ينفي ما قدمه العامليون من معونة عسكرية للشيخ ظاهر وحلفائه المصريين في أثناء تحالفهم معهم، إذ يذكر هذا القنصل، في مذكرة بعث بها الى حكومته بتاريخ أول أيار عام ،1772 أنه، في أثناء مهاجمة الأمير يوسف الشهابي وحلفائه العثمانيين لصيدا، في العام نفسه، بقصد تخليصها من يدي ظاهر العمر وحليفه علي بك المصري، كان العامليون على أهبة الاستعداد لأن يقدموا، لمساعدة حلفائهم الصفديين والمصريين، جيشاً يراوح عدده بين 3 و4 آلاف مقاتل Documents T2p210وقد بقي هذا الجيش في بقعة التجمع وعلى مقربة من ساحة القتال بناء لأوامر الشيخ ظاهر.
كما أن الشيخ ناصيف النصار قد اشترك مع قواته الى جانب الشيخ ظاهر في حصار نابلس في العام نفسه (مذكرة من القنصل نفسه بتاريخ 2 أيار 1772) Documents T2 p212.
ويقدم القنصل نفسه، في رسالة أخرى منه الى الدوق ديغويون بتاريخ 2 حزيران ،1772 شهادة جيدة بحق العامليين منوّهاً بشجاعتهم فيقول: "يستطيع المتاولة أن يقدموا ما بين 5 أو 6 آلاف مقاتل، وقد تلقوا الأوامر في جميع قراهم بأن يكونوا على أهبة الاستعداد للسير نحو العدو. انهم شجعان، وانتصاراتهم الأولى، بالإضافة الى القيادة التي تعوّدوها منذ عام - وفي هذا إشارة واضحة لقيادة الشيخ ناصيف - أعطتهم ثقة بالنفس هي بالتالي قيمة الشجاعة" إلا أنه يعود فيقول: "انهم ليسوا سوى فلاحين مسلحين لا يستطيعون ترك أرضهم طويلاً".
)Documents T2 p225(
ويتحدث، في مذكرة بعث بها الى حكومته بتاريخ 27 حزيران ،1772 عن العامليين وجيشهم فيقول: "يستطيع كل شيخ من مشايخ بني عاملة أن يعد تحت السلاح من 250 الى 800 مقاتل، وهؤلاء المشايخ، مجتمعين، يمكنهم أن يعدوا جيشاً من 2500 خيال و3500 راجل" Documents T2p253-245). كما أن تايتبوت (Taitbout قنصل فرنسا بصيدا، في معرض إجابته عن بعض الأسئلة المتعلقة بأوضاع الطوائف في هذه البلاد، عام ،1806 وصف العامليين بأنهم "جنود جيدون" Des bons soldats.
)Documents T3 p52(
ويحاول المؤرخ آل صفا أن يحلل في كتابه (تاريخ جبل عامل) الشخصية العسكرية العاملية، وعلى الرغم من أنه يقع، كثيراً من الأحيان، في المبالغة، إلا أنه يظل يقدم، فيما كتب، للقارئ وللمؤرخ فائدة تذكر، فالعاملي حسب رأيه "من أسرع الشعوب لحمل السلاح" يعتني الى حد كبير بأساليب القتال فيتقنها، ويولي قلاعه عناية فائقة بقصد إعدادها للدفاع فيرممها ويحصنها ويشحنها بالأسلحة والمقاتلين، ويظل على مستوى مرموق من التنظيم، وفي حال دائمة من اليقظة والحذر، فهو مستعد دوماً "لخوض غمار المنايا والمبادرة للنجدة وحمل السلاح" لدى سماعه أول طلق ناري أو لدى أي إشارة من زعمائه وقادته. وإذا كان آل صفا قد تفرد بهذا التحليل للشخصية العسكرية العاملية، فقد وافقه عليه، الى حد كبير، الشيخ أحمد رضا، الذي ذكر، في مجال الحديث عن تضامن العامليين في الحرب، ان راعياً أطلق عياراً نارياً لصد وحش ليلاً فتجاوبت جميع القرى المتصلة بإطلاق النار، اعتقاداً منها أن عدواً يهاجم القرية "وما انجلى عمود الصبح حتى كانت الألوف ترد وتحتشد. والفرسان مهيأة للطعان".
وبعيداً عن الأسلوب العاطفي والأدبي الذي تحدث به هذان المؤرخان عن الشخصية العسكرية العاملية، نستطيع القول، في نهاية حديثنا هذا، أن العاملي ثائر بطبيعته، مقاتل بفطرته. إلا أنه كان يفتقر دائماً الى الفن العسكري المنظم، فظل، بسبب ذلك، يعتمد على شجاعته وبسالته أكثر من اعتماده على أسلوب قتالي تكتيكي محدد، اللهم سوى أسلوب "الكر والفر" الذي كان سائداً في بلادنا حينذاك، باستثناء ما كان يأتي "بداهة" و"دون أدنى حساب" باعتبار ان التكتيك العسكري هو "فن القتال، أو فن إدارة المعركة بشكل يضمن للقائد إحراز النصر".
مصادر البحث
- أخبار الأعيان في جبل عامل لطنوس الشدياق، منشورات الجامعة اللبنانية 1970.
- أوروبا ومصير الشرق العربي لجوزف حجار، المؤسسة العربية 1976.
- تاريخ جبل عامل لمحمد جابر آل صفا، دار متن اللغة - بيروت.
- البلاد العربية والدولة العثمانية لساطح الحصري، دار العلم للملايين 1965.
- للبحث عن تاريخنا في لبنان لعلي الزين، طبعة أولى 1973.
- صيدا عبر حقب التاريخ لمنير خوري، المكتب التجاري 1966.
- جبل عامل في التاريخ لمحمد تقي آل فقيه، المطبعة العلمية 1946.
- خطط جبل عامل لمحسن الأمين، طبعة 1 -1961.
- السياسة الدولية في الشرق العربي لعادل اسماعيل، دار النشر للسياسة والتاريخ 1960.
- الغرر الحسان في تاريخ حوادث الأزمان لحيدر أحمد الشهابي، مصر 1900.
- خطط الشام لمحمد كرد علي، مطبعة المترقي دمشق 1927.
- تاريخ الأمراء الشهابيين بقلم أحد أمرائهم من وادي التيم تحقيق سليم هشي، المديرية العامة للآثار - بيروت 1971.
- تاريخ لبنان العام ليوسف مزهر - بيروت.
- مجلة العرفان لأحمد عارف الزين (اعداد متفرقة).
- أوراق لبنانية ليوسف ابراهيم يزبك، حزيران 1956.
-Les Forces armées dans les Muqata'aslibanais-thése pour le Doctorat de 3e Cycle. présentèe par le Col. Y. Souèd Lyon (France 1977 Bibliothéque de L'AUB Université Libanaise e UAB).
- Documents diplomatiques etConsulaires, T1 et, 2, Adel Ismail.
- Mémoires sur les turcs et lestartares, Baron de Tott.