كتب محمود محمـد سويدان :

   في الذكرى الثالثة عشرة لحرب تموز 2006 التي لم يُكتب فيها الحياة الا لطويل العمر لا بد من ذكر محطات عابرة عن حرب الثلاثة وثلاثين يوماً التي  عشتها سبعة ايام في بلدتي ياطر وستة وعشرين يوماً في حي  السلم في ضاحية بيروت الجنوبية حيث فضلت وأسرتي ان اسكن منزلي هناك ولو تحت النار والجحيم لأتجنب مرارة التهجير الذي لم اعتد عليه بحمد الله تعالى ، وقد كان التعرض للمخاطر هناك نزهة قياساً بما تعرضنا له في بلدتنا ياطر التي تبعد 5 كلم خط نار عن الحدود مع فلسطين المحتلة والتي تحولت وأخواتها من قرى الجوار الى جبهة حرب رئيسية في 12 تموز 2006 ، خصوصاً في الأيام الأخيرة للحرب في 12 آب 2006 حيث تلقى العدو الضربتين الفادحتين في اليوم نفسه: الأولى تمثلت بمجزرة الدبابات في وادي الحجير وتحطم اسطورة ال"ميركافا"  ( المركبة بالعربية) والثانبة بإسقاط طائرة نقل الجند ال"يسعور"   ( الدبور بالعربية ) في خراج بلدة ياطر  بعد استفتاحية ضرب المقاومة للبارجة الصهيونية "حانيتا" امام شواطئ بيروت في 14 تموز 2006.

  وكان اللافت ان هذه المعارك جرت في اليوم التالي على صدور القرار الدولي 1701 الذي دعا الى وقف الأعمال الحربية . وقد بذل العدو الصهيوني اقصى ما يملك من طاقة وقدرة تدميرية لتحقيق اي انجاز عسكري يحفظ ماء وجهه ويستر إخفاقه قبل توقف الأعمال الحربية بموجب القرار الدولي الذي صدر آنذاك في 11 آب 2006 تمهيداً للوصول لاحقاً الى المرحلة الثانية وهي : وقف إطلاق النار ولا زلنا بعد مرور 13 عاماً على توقف الحرب في المرحلة الأولى : " وقف الأعمال الحربية "

  وكان الوفد اللبناني في الأمم المتحدة قد اصر على نشر قوات اليونيفيل على الحدود وفقاً للبند السادس من البنود التي تنظم عمل قوات الطوارىء الدولية في مناطق النزاعات بينما اصر العدو تدعمه الديبلوماسية الأميركية على نشر اليونيفيل وفقاً للبند السابع الذي يعطيها الحق باستعمال السلاح الى ان جرى التوصل التى تسوية قضت بانتشارها تحت البند السادس وفي حال تعرضها لـ" اعتداء " تتصرف وفقاً للبند السابع . وبعد هذه التسوية تم تحديد موعد وقف العمليات العسكرية عند الساعة الثامنة من صباح يوم الإثنين الواقع فيه 14 آب 2006 .

  والتحية للديبلوماسية اللبنانية التي قاتلت في الأمم المتحدة مثلما قاتل المقاومون على جبهات القتال في تجسيد فعلي لما قاله ضمير لبنان دولة الرئيس سليم الحص عافاه الله : إن للبنان بندقيتين ، واحدة مرفوعة في الأمم المتحدة والمحافل الدولية تناضل لأجل الحق اللبناني وأخرى مرفوعة على حدود الوطن تذود عن ترابه . وقد انتزعت الديبلوماسية اللبنانية لأول مرة اعترافاً من الأمم المتحدة بوجود قضية نزاع بين لبنان والعدو الصهيوني اسمها مزارع شبعا وذلك في البند الثامن من بنود القرار 1701 .

  صبيحة يوم الإثنين  14 آب 2006 وتلبيةً لنداء دولة رئيس مجلس النواب الأستاذ نبيه بري زحفت جموع الجنوبيين من كل جهات الوطن التي احتضنتهم الى قرى الجنوب منذ اللحظة الأولى لتوقف الحرب . فضلت البقاء في حي السلم لأيام حتى يخف ازدحام العائدين . اول ما فعلته في ذلك اليوم هو انني قدت سيارتي وتجولت في شوارع الضاحية متوجهاً نحو بئر العبد والرويس وحارة حريك . لكثافة الدمار شبه الشامل لمباني الضاحية ظننت بأنني اتجول في شوارع برلين في نهاية الحرب العالمية الثانية عام  1945 والتي كنت أقرأ عنها في مراحل التعليم الثانوي .

   فبعدما عجز العدو عن الوصول براً الى مياه نهر الليطاني واندحرت قواته في  وادي الحجير وجرّت أذيال الخيبة في مختلف قرى المواجهة لجأ الى اسلوب التدمير الهائل للبشر والحجر وارتكب ابشع المجازر في التاريخ الإنساني بسبب انكسار هيبة الجيش " الذي  يقهر"  مبتكراً نظرية " كي الوعي " لدى اللبنانيين أي إحداث الصدمة لدى العائدين لهول الدمار الذي سيرونه لكنه لم ينجح بالتستر على الهزيمة التي لحقت به من دون مبالغة . فالمقاومة اللبنانية لم تكن تملك الأسلحة التي تمكنها من تدمير ترسانة العدو العسكرية  وليست جيشاً نظامياً ، ولكن الحرب حرب إرادات فأن تمنع العدو الصهيوني من فرض شروطه وإرادته على سيادة بلدك واستقلاله  وتتمكن من دحر قواته التي حاولت التوغل واحتلال القرى يكون هذا هو النصر بعينه ولو بكلفة 1200 شهيد لأن كلفة الانتصار أقل بالكثير الكثيرمن كلفة الهزيمة والعار مهما بلغت التضحيات .

   صباح الجمعة 18 آب 2006  انطلقت وأسرتي عائداً الى بلدتي ياطر  ولدى وصولي الى مدينة صور علقت بازدحام شديد جانب ثكنة بنوا بركات للجيش اللبناني البطل شريك المواجهة مع العدو حتى باللحم الحي، وعند الاستفسار عن سبب الازدحام أجابني احد المواطنين : "إن اهالي بلدة ياطر يقومون بسحب ودائعهم ( يقصد رفات الشهداء) من جانب الثكنة . حمدت الله تعالى انه كتب لي جزاء الصمود ومغامرة البقاء في الضاحية  أن اسير بموكب شهداء بلدتي من صور الى ياطر .

   ومن محطات تلك الحرب التي كنت ومن تبقى من اهلي وبعض الجيران في حي السلم مرشحين كل يوم لأن نكون من عداد الشهداء فيها أن طائرات العدو القت ذات نهار مناشير تهدد سكان حي السلم والرويس وبرج البراجنة بإخلاء منازلهم الخالية بالأصل الا القليل منها. فسقط بعض المناشير فوق مزرعة للأبقار في محلة التيرو على اطراف الحيْ وقصف طيران العدو لاحقاً المزرعة مفتعلاً المجزرة حتى بالأبقار التي لا حول لها حيث علل الأستاذ طلال سلمان ساخراً في افتتاحية " السفير "  في اليوم التالي لتلك المجزرة بأن  " ذنب تلك الأبقار المسكينة انها لم تقرأ  مناشير العدو " .

   على جبانة بلدتنا ياطر صلينا على الشهداء ، واريناهم الثرى ، أمسكت بورقة ملقاة على الأرض وإذا بها منشور إسرائيلي : " الى اهالي الجنوب اللبناني ، ها قد عدتم الى قراكم وبيوتكم ووجدتموها قد دمرت ، وقد رأيتم ماذا فعل بكم المخربون، إن جيش الدفاع الإسرائيلي لن يتوانى عن العودة الى تدميرها في حال إيوائكم المخربين " . من جديد نعود الى نظرية كيْ الوعي الإسرائيلية . ولكن من كوى الوعي عند الآخر ؟ الإسرائيلي ام لبنان بصمود مقاومته وجيشه الباسل وشعبه المضحي ؟، والذي حطم نظرية "نقل المعركة الى ارض العدو" فيما جبهته الداخلية تنعم بالأمان، وهي النظرية التي طالما تغنى بها الإسرائيلي في كل حروبه النظامية مع العرب ،  ولكن مفاجأة حرب 2006  ان صواريخ المقاومة طالت العمق الصهيوني حتى ضواحي تل ابيب ( تل الربيع الفلسطينية )  لأول مرة منذ حرب تشرين ( أكتوبر 1973) .

   لدى عودتي الى بيتي بعد مشاركتي بواجب تشييع الشهداء ولمتابعة التطورات أدرت المذياع لأستمع عبر اثير اذاعة العدو الى ما يلي : "طلب رئيس بلدية حيفا من اجهزة الدفاع المدني والشرطة المحلية والسكان العائدين الى المدينة أن يعمدوا الى إلقاء بقايا الصواريخ والقذائف التي اطلقها "المخربون" ( المقاومون) في البحر وذلك لتجنب تعرض العائدين (المستوطنين)  للصدمات النفسية " ،  سبحان الله ، اي وعي بقي لهؤلاء الصهاينة بعد هذا الإقرار بالإصابة بالصدمات النفسية لمجتمع هش جراء العثور على بقايا صاروخ متفجر اطلقته المقاومة ، يحاول العدو بإلقاء المناشير التي تهدد سكان قرى الجنوب إحداث نفس التأثير الذي تفعله بقايا صاروخ في مستوطنة .  وقد نسي العدو أن اهالي الجنوب اعتادوا على اسلوب التدمير الممنهج في عدوانيه عامي 1993 و 1996 .

في 2 آب 2006 ورداً على تلميحات قادة العدو بقصف بيروت هدد قائد المقاومة سماحة السيد حسن نصر الله قادة العدو  بقصف تل أبيب، عادت بي الذاكرة الى ما قرأته من مذكرات بطل حرب العبور في حرب اكتوبر 1973 الفريق سعد الدين الشاذلي عندما كان يأمر طلعات سلاح الجو المصري بخرق جدار الصوت فوق تل ابيب أيام الزمن الجميل .

  في 4 آب 2006  تنقل وسائل إعلام العدو الصهيوني ان سلطات الاحتلال أغلقت مطار بن غوريون الدولي ليس بسبب تهديدات المقاومة بل للحد من تعاظم الهجرة المعاكسة من جراء احتشاد المستوطنين الذين بلغ عددهم منذ بداية الحرب في 12 تموز 2006 مئتين وخمسين ألفاً  امام سفارات الدول الغربية يطلبون تأشيرات الدخول ( تخيلت ان كل فرد من هؤلاء توجه الى سفارة البلد الذي اتى منه ابوه أو جده لاستيطان فلسطين ليطالب بأحقية عودته الى ذلك البلد ) . وبكل حال هذا من افضال حرب تموز التي كشفت زيف ذلك الكيان الغاصب وأعادت طرح سؤال " الوجود "على المجتمع الصهيوني : هل حقيقة ً ان فلسطين هي الملجأ الآمن ليهود العالم؟ هذا السؤال الذي ظن انه تجاوزه منذ آخر حرب نظامية بين العرب و"إسرائيل" .

وهنا أورد مذكرات مستوطن صهيوني كتبها بعد الذكرى الأولى للحرب عام 2007  ونقلتها الصحافة اللبنانية عن وسائل إعلام العدو  وسمعتها عبر المذياع : في 3 آب 2006 اشتد القصف الصاروخي لمستعمرة كريات شمونة ( قرية الخالصة الفلسطينية) وغادرها اكثر من 60 بالمئة من ساكنيها ، قررت الحكومة إخلاء جميع من تبقّى من السكان بعد تعطل مرافق الحياة فيها وأحضرت الحافلات . حزمت ما أمكنني من الأمتعة والحاجات ووضبتها على عجل في حقيبة ، تركت المسكن تركت الذكريات ، وكل شيء جميل . تأبطت حقيبتي وركبت الحافلة التي ستبتعد بنا الى اواسط البلاد . وعلى مقاعد الحافلة راحت مخيلتي تستعرض صور النازحين الفلسطينيين في القرن الماضي . ها انذا اتذوق مرارة التهجير. الآن ادركت ما الذي فعلناه بالشعب الفلسطيني عام 1948 " .

  خلال مواجهات الحرب ، على فراش المرض وما تبقى له من هنيهات ما قبل الرحيل،  في احد مشافي دمشق يأتي احد مساعدي حكيم الثورة الدكتور جورج حبش ( الأمين العام الأسبق للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين) ليخبره بأن صواريخ المقاومة تنهال على حيفا وعكا وطبريا وبيسان فيفرح الحكيم ويحمد الله تعالى الذي أحياه الى اليوم الذي يسمع فيه بتساقط الصواريخ على عمق فلسطين المحتلة ويقول : " ألم اقل لكم ان منطق التاريخ يحتم زوال هذا الكيان الصهيوني الغاصب " وأن الحق سيعود لأصحابه مهما طال الزمن . ذكرني كلام الحكيم بالقاعدة الذهبية التي أرساها الرئيس الراحل جمال عبد الناصر : " ما أُخِذَ بالقوة لا يُستردّ بغير القوة".

  لإمام الوطن والمقاومة الذي نقترب من ذكرى تغييبه سماحة الإمام السيد موسى الصدر الذي قال " إذا لقيتم العدو فقاتلوه بأسنانكم وأظافركم وسلاحكم مهما كان متواضعاً " نقول لك يا سيدي الإمام لم يعد سلاح شعبنا الذي سطّر الملاحم في حرب تموز 2006 متواضعاً بل طال عمق العمق الصهيوني وبوارجه في البحر ومدناً في فلسطين نفضت عنها المقاومتان اللبنانية والفلسطينية غبار النسيان .

   وكل ما تقدم بفضل دماء الشهداء وأنين الجرحى وتضحيات المجاهدين حماة ثغور هذا الوطن من عسكريين ومقاومين وبفضل شعبنا الذي تحمل وصبر وضحى بكل ما يملك لأجل إعلاء شأن لبنان عالياً . وللمرة الأولى في تاريخ الصراع مع هذا العدو الغاشم يمر على لبنان 13 عاماً اطول فترة هدوء لا يتجرأ فيها العدو الصهيوني على الإعتداء على بلادنا .